476 - القتال
القتال
▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬
اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرك لِمَا لاَ أَعْلَمُ
ترجمة: Arisu san
▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬
ارتسمت ابتسامة ساخرة عريضة على وجه “الإصبع العاشر” وهو يحدّق بثقة نحو المدير، وقال:
“تكرر كلامك ذاته في كل مرة، أتظن أنني أجهل طريقتك في ترويض هذه الكائنات؟”
كان اللهيب الأسود يلتهم الكلاب المسعورة، بينما “الإصبع العاشر” يستلذ بسفك الدماء.
“ترشو بالمال، وتلوّح بالعنف، ثم تذرّ بعض الفتات لمن لا يشكلون خطرًا عليك. بارعٌ في استمالة القلوب، وحظك لا يُستهان به، لكنني سأقولها لك: متى ما غبتَ عن المذبح، صرتَ لا شيء سوى عالة لا فائدة منك.”
غرس “الإصبع العاشر” أنامله في الأرض، فتجاوبت الرموز الغريبة المنقوشة على الجدران مع طاقته، لتتشكل سلاسل سوداء وحمراء.
“تظن أنك سيد هذه المدينة؟ بل لستَ سوى كلب حراسة للمذبح. لو لم يكن المذبح قد كبح قوتي، لأغرقت هذا العالم بالدماء.”
كان كل إصبع من أصابعه يئن. إنّ لهذا الرجل قدرة خاصة: كلما قتل أكثر، اشتدت قوته. بوصفه الكراهية الخالصة الوحيدة بين إخوانه، لم يعُد يعلم عدد من أزهق أرواحهم. استمد لهبه الأسود من أرواح الموتى، وكان يعتزم اقتحام المذبح بالقوة المحضة.
اندلعت نيران الحقد السوداء في السلاسل، وتحولت الرموز الأرضية إلى مشاعل. ولو لم يتدخّل أحد، لربما نجح في مسعاه.
لكنّ المطر المتسرب إلى جوف الأرض كان مشبعًا بحقد البئر، فأطفأ لهيبه المتأجج ببرودته الجارحة.
قال المدير غو، بصوت هادئ واثق:
“نضالك عبثي. الطاغوت لا يُقهر. مذ رأيتُه أول مرة، أيقنت أن دربي الوحيد هو خدمته.”
ثم التفت باحترام نحو المذبح.
“سيظهر آخرُ قربانٍ عمّا قريب، وأمنيتي هذه المرة… حياة إضافية.”
ولوّح بذراعيه المتعفّنتين، فانطلقت الوحوش المتحوّلة من المدينة نحوه.
كان هذا المشهد باعثًا على اليأس لمالك المذبح؛ أراد النجاة، لكن كل شيء في العالم بدا وكأنه انقلب ضده. الوحوش المتحوّلة، والمجانين الزاحفون من كل زاوية… كلهم أرادوا تمزيقه والتغذي عليه. وكلما تأخر الوقت، ازدادوا بشاعة، ولم تعد ملامحهم بشريّة.
ضحك “الإصبع العاشر” ساخرًا:
“هو مَن دمّر هذه المدينة، هو مَن حوّلكم إلى مسوخ… ومع ذلك، ما زلتم تنصاعون لأوامره؟!
يالها من مهزلة! هذا المكان يشبه الواقع أكثر من اللازم… أقذر بكثير من عالم الموتى!”
ثم لعق الدم المتناثر على أصابعه، وحرك الرموز في المخزن كلها.
رنّت ساعة المركز التجاري، وانهارت الشعيرات الدموية التي تغطي الجدران.
لكن ما سال منها لم يكن دمًا… بل أجساد البشر الذين التهمهم هذا المبنى.
خرجت الأجساد الزاحفة وتحطمت على الأرض، لكن الوحوش لم تكترث.
استمرت في الطاعة العمياء، لا تملك حتى القدرة على التفكير.
هنا، صار الإنسان سلعةً تُسعّر، تُباع وتُشترى، بل حتى الأرواح لم تُستثنَ من هذا السوق.
البشر المجفّفون صاروا طوبًا في أساس هذا المبنى.
أما رفاقهم، فلم يأبهوا بأرواحهم المحبوسة بين الجدران… بل لعلهم اندهشوا من رخص ثمنها.
قال المدير غو وهو يحدّق في “الإصبع العاشر”:
“أمثالك من القتلة لا يفهمون لذة الحياة كإنسان.”
أجاب الآخر مبتسمًا:
“لستُ أفهمها… لكنني أفهم لذة قتل الإنسان. أنصحك بالتفكير في طريقة موتك.”
لم يغادر “الإصبع العاشر” عالم الذاكرة لأن ظهور “اللامذكور” فيه أربكه.
خشي أنه إن لم يظفر بسرّ المذبح الآن، فقد يُقاطع مجددًا في المستقبل.
لذا قرر البقاء… للقتال حتى النهاية.
بينما كان يتبادل الحديث مع المدير، انهارت الأرضية في الطابق الأول، واندفع بقية أفراد “الأصابع” مطلقين قواهم عبر الأوشام، شقّوا طريقهم عبر الوحوش قاصدين المدير غو.
قال الأخير وهو يبتسم:
“لقد قتلتني مرارًا… لكن ألا تظن أنني كنت أعلم دائمًا بوجود الغرباء؟ كنت بانتظارهم.”
ولم يلتفت حتى نحو الأصبع الثاني والثالث اللذين اندفعا نحوه، بل أكمل قائلاً:
“الضحية الأخيرة هو الغريب… وأخيرًا وجدته. الليلة… سأولد من جديد.”
بدأ جسد المدير غو يتحول.
خرجت أذرع حمراء من جروحه المتعفنة، مزّقت كل ما يقترب.
التصق اللحم بالجلد، فكبر جسده بشكل مخيف.
هاجم الأصبعان المدير بكل قوتهما، لكن رغم أن جسده كان يُسحق، إلا أنه كان يتجدّد بسرعة غير طبيعية.
امتدت أذرعه من ساقيه كجذور، انغرست في باطن الأرض، متصلةً بالبئر.
وحين لامست البئر، بدا أن صلةً قد نشأت بينه وبين المذبح أيضًا.
قال المدير:
“ما دمتم ترغبون باستخدام المذبح لتحقيق أمانيكم، فلن تتمكنوا من قتلي أبدًا.”
ولم يكن ثمة سبيلٌ للنيل منه… سوى تدمير المذبح.
لكنّ المذبح، كونه الأساس لهذا العالم، لم يكن سهل التدمير.
تمدّد جسد المدير غو وانتفخ، حتى غدا كشجرةٍ تتدلى منها رؤوس بشرية. ورغم هيئته المرعبة، هرع سكان المدينة إلى المركز التجاري لمساعدته، فلم يكن جزاؤهم سوى أن التهمهم ليغدو غذاءً له.
لم يعد الإصبعان الثاني والثالث قادرَين على كبح جماحه. لقد نمت هذه البذرة الشريرة حتى أصبحت شجرةً تحجب نور الشمس. وبرغم المجازفة بحياتيهما، لم يفلحا إلا في إبطاء نموّه الوحشي.
صرخ “الإصبع العاشر” نحو أخويه:
“ارجعا! لا تهدرا قواكما!” ثم تابع قائلاً بنبرة مريرة:
“لقد كان محقًّا. السبيل الوحيد لقتله هو بتدمير المذبح… لكننا بحاجة لحراسته حتى نحصل على المفتاح الكامن فيه، لذا…”
سأله الإصبع الثاني بحدة:
“لذا ماذا؟”
كان قريبًا من أن يُطرد خارج هذا العالم، لكنه لم يُبدِ قلقًا؛ فما زال أمامه فرص لاحقة.
قال “الإصبع العاشر” ببرود:
“لذا يمكنكما أن تموتا الآن.”
وأطبق على رفيقَيه، مضيفًا:
“أبقيتكما بجانبي كي تساعداني على بلوغ مرتبة ‘الكراهية الخالصة”، لكن من كان يظن أن إشعال لهيب الكراهية الأسود سيكون بهذه السهولة؟”
حاول الإصبعان الهرب فورًا، لكن الأوان قد فات.
قال وهو يطعن يديه في جسدَيهما، وقد تَجسدت أصابعه لتصبح ماديةً تمامًا:
“لن تموتا داخلي، فلم الخوف؟”
ثم تمتم بأسى:
“ياللحسرة… لو لم يختف الآخرون، لكنت أطلقت كامل قوتي.”
أما المدير غو، فلم يكترث، بل هتف بصوتٍ أجوف:
“حتى إن عرفتَ أن السبيل لقتلي هو بتدمير المذبح، فأنا واثق أنك لن تقدر عليه!
كل ما تفعله… لا طائل منه!”
ضحك وهو يضيف:
“لو كان بالإمكان اقتحام ذاكرة اللامذكور بالقوة الغاشمة، لما سُمّي لامذكورًا أصلاً.”
ظن “عشر أصابع” أن هذا مجرد تهديد أجوف، ورفض أن يصدق أن مذبحًا مهجورًا منذ عقود يمكنه إيقافه.
مدّ أصابعه المتقدة بالحقد نحو المذبح، أزال الختم الذي كبح قوته، وصبّ كل كراهيته في ضرب قمة المذبح، محاولًا توسيع الفتحة القائمة.
شقت النيران السوداء طريقها عبر الكلاب المجنونة والوحوش، فاستطاع “الأصبع العاشر” أن يرى داخل المذبح.
وكان هناك… بئرٌ آخر.
بئرٌ يحوي أمنياتٍ لا حصر لها، بدت قريبةً وبعيدةً في آنٍ واحد.
وكان طاغوتاً يختبئ في قاعها!
تشكّلت حبال من ذكريات في يانغ، والثعبان، وهوانغ لي، وغيرهم… جميعهم اختيروا كقرابين بسبب شخص واحد.
فقط بتضحيتهم، ظهرت الحبال الممتدة إلى البئر.
راقب “الإصبع العاشر” الحبل المتمايل، وأدرك أنه لا يزال بعيدًا عن ملامسة الماء.
كان بحاجة إلى قربانَين إضافيَّين على الأقل.
“المذبح لم يُمسّ قط، وهذه أقرب مرة أصل فيها إلى سرّ اللامذكور!”
امتلأت عيناه بالحقد، وصبّ كل قوته في الفتحة.
كان الكراهية الخالصة طاقةً عاطفية محضة، ولهيبُه الأسود قادرٌ على إحراق كل شيء.
وما إن وطئت قدمه المذبح، حتى علا صراخ المدير غو، وكأنّ كراهية “الإصبع العاشر” كانت تحرق أحشاءه.
انهار جسده الضخم، وذبلت الأوراق المسمومة بالحقد.
انكمش المدير، لكنّ عينيه ظلّتا تلمعان بالجشع.
قال وهو يبتسم:
“فلنرَ كيف ستخرج الآن بعد أن دخلت!”
أمسك “الإصبع العاشر” بحبل الذكرى، ودلف إلى البئر.
لكنه لم يستطع لمس الماء.
حدق في مياهه، ثم جمع حقده في يده اليسرى، وأطلق كرة من اللهب الأسود بيده اليمنى نحو الماء.
فانفجرت الأمنيات كفقاعات!
صرخ بأمنيته في البئر، آملاً أن تُسمع، لكن…
تبدّل البئر فجأة.
تحول الطوب إلى أذرع، وانفرج فاه البئر كالزهرة.
تحوّل الماء الصافي إلى دمٍ أحمر، وعكس صورة “الإصبع العاشر” نفسه… كأن الطاغوت في البئر كان هو نفسه.
قال متهالكًا:
“هذا ليس بئر أمنيات… بل وحشٌ يتغذى على الأمنيات!”
حتى وهو في هيئة “الكراهية الخالصة”، شعر بخطر قاتل.
تراجع، لكن الوقت خانَه.
أطبقت الأذرع على جسده، وعلم أنه إن بقي هنا، سيُسحب يومًا ما إلى أعماق البئر.
فاتخذ القرار الأبسط:
تحولت أصابعه إلى سكاكين، ومزق بها جسده…
قطع كل شيء، وأبقى فقط على قلبه المتّقد.
انطفأ اللهيب الأسود بمياه البئر، لكنه تمكّن أخيرًا من الفرار… بثمنٍ فادح.
رغم ذلك، تضرر المذبح من كراهيته، وضعف مفعوله، وصار حتى البشر العاديون قادرين على الاقتراب منه.
قال المدير غو، مذهولًا:
“أفلحتَ في الفرار؟”
فهو مرتبط بالمذبح، وإن ضعف المذبح، ضعُف هو أيضًا.
لكن الفارق بينه وبين “الإصبع العاشر” هو قدرته على استعاضة قوته من أرواح الوحوش المتحوّلة.
طالما هناك من يصدّقه، فلن يموت أبدًا.
صاح “الإصبع العاشر”، وهو على شفا الهلاك، واللهيب في عينيه يتلاشى:
“أيها العجوز العنيد… لقد كشفت سرك. في المرة القادمة، ستكون نهايتك!”
لم يبقَ في صدره سوى بذرة حقد خافتة تتوهج.
ردّ المدير غو بابتسامة حزينة:
“لن تكون هناك مرة قادمة… لقد جُمعت كل القرابين، وسأُبعث في هذه الذاكرة.”
ثم لوّح بذراعيه، فانقضت جحافل الوحوش المتحوّلة نحو “الإصبع العاشر”.
لم يعد يملك ما يدفع الخطر عنه نفسه به، وكان خياره الوحيد هو الخروج من هذا العالم.
تجمّدت عيناه على هيئة المدير غو، الممتلئة بالطمع، وهو يئنّ تحت هجمات الوحوش.
مدّ يده، محاولًا لمس الوشم حول قلبه، لكن يدًا أوقفته.
رفع عينيه… ورأى شابًا يركل الوحوش واحدًا تلو الآخر.
شابٌ يضع قناعًا على هيئة وحش، ونظراته باردة كالثلج.
“هذا الشاب… لا ينتمي لهذا العالم!”
وقبل أن يستوعب ما يجري، همس الشاب:
“ارقد بسلام… سأنتقم لك.”
اخترق نورٌ ساطع صدر “الإصبع العاشر”، وتبددت كراهيته.
نظر إلى الضوء… وشعر أن جوهره يتفكك.
تمتم قبل أن يختفي:
“ستنتقم لي؟ “…”
—