معركة الرايخ الثالث - 133 - بنتيوم (I)
المجلد 5 | الفصل الثاني | بنتيوم (I)
.
.
في الصباح الباكر ، تغمر أولى اشعة الشمس الأرض بهدوء ، ويمتلئ الهواء النقي برائحة النباتات الرطبة مع الندى. السطح المائي الهادئ والعميق لنهر السوم مغطى بطبقة من الضباب الشبيه بستار الشاش ، يطير طائر الماء الأبيض الضخم ببطء وبأناقة بالقرب من سطح الماء ، تارك خلفه سلسلة من التموجات الجميلة. زحف عدد قليل من البط البري في وقت مبكر إلى داخل وخارج النباتات المائية المورقة على ضفاف النهر. وظلوا يلصقون رؤوسهم في الماء للبحث عن الأسماك الصغيرة التي قضت الليل بين النباتات المائية ، أو ترفع رؤوسها وتطلق القليل من النعيق للتباهي امام رفاقهم بإنجازاتهم الممثلة في الحصول على صيد ناجح ، ولم يهتم على الإطلاق بما إذا كان يتطفل على هدوء وسكينة هذا المشهد الجميل المماثل لأرض الخيال.
هل هذه هي ساحة المعركة التي دُفن فيها نصف المليون رجل في الماضي؟ على الرغم من أنه شاهد هذا النوع من المناظر الجميلة كل صباح ، عندما ظهر هذا المشهد الحالم أمام لافاييت مرة أخرى ، لا يزال يجلب له لمسة حنين لا تقاوم ، وأصبح العالم في عينيه هادئًا للغاية ، وكأن الحرب لم تحدث أبدًا ، يبدو أن الدم والعنف يحدثان في عالم آخر ، ولا علاقة لهما بهذا العالم. لكن الواقع يفرض نفسه دائما، فالبريق البارد للفوهة الفولاذي للمدفع الرشاش M1924 بجانبه والرائحة الباهتة لزيت البندقية فصلته عن هذا العالم الجميل والهادئ أمامه. لقد ذكرو لافييت باستمرار انه الآن على الجبهة ، ربما في غضون دقيقة ، سيتحول هذا المشهد الهادئ والبهي أمامه إلى جحيم على الأرض ، وسيحل الدم واللهب محل اللون الأخضر الزمردي الجميل لهذه الأرض ويسود عليه، ومن المحتمل أن يكون هو نفسه جزءًا من ذلك الجحيم ، لإضافة لمسة من اللون الأحمر إلى حطام هذه الجنة.
“لافاييت … لافاييت!” صوت أجش قاطع الأفكار الرومانسية لمجند المدفعية الشاب.
“ما الأمر؟” نظر جندي المدفعية لافييت إلى من ناداه بلمسة من الإكتئاب. كان المنادي هو الرقيب ليدول الذي كان من قدامى المحاربين في الحرب الماضية. دائمًا ما يكون ليدول مليئًا باللامبالاة تجاه هذه الحرب ، فقد فاز بالعديد من الميداليات في الحرب السابقة ، ويمكن القول إنه الشخص صاحب أكبر خبرة قتالية في الفوج بأكمله. لكن ما يثير الدهشة أنه ما يزال مجرد رقيب. يقال إن السبب هو أنه لم يكن قادرًا على صنع علاقة طيبة مع رؤسائه. إذا كان أذكى ، فقد يكون ضابطًا ويرتدي قبعة ديربي رائعة منذ وقت طويل.
“هل لديك المزيد من الزبدة؟ لقد نفد ما لدي.” جلس ليدول هناك مبتسمًا وقال لمجند المدفعية. بعدها نصب مقلاة وكان يستعد لإعداد الإفطار. بدأ وعاء الحساء على الموقد في الغليان ، وخرج بخار خافت ونتشرت رائحة طعام قوية في الهواء ، مما جعل مجند المدفعية الحالم الشاب يبتلع عدة جرعات من اللعاب.
“نعم، لدي البعض أيها الرقيب.” ركض لافاييت بسرعة إلى حقيبة ظهره وأخرج علبة الزبدة.
“أيها الرقيب ، ماذا ستطهو اليوم؟” سلم لافاييت الزبدة إلى ليدول بينما سأل.
“بعض الأشياء الجيدة، لقد حصلت عليها من مطبخ الكتيبة أمس.” أخذ ليدول الزبدة ووضعها جانبًا ، ثم أخرج قطعة كبيرة من لحم الخنزير المقدد بطول عشرة سنتيمترات على الأقل من حقيبته.
“أيها الرقيب ، أنت بطلنا!” هتف العديد من الجنود الذين استيقظوا لتوهم من النوم وفركوا أعينهم المرمدة وأحاطوا بضابط الصف العجوز.
“سيحصل الجميع على نصيبه ، ماريوس لا تنظر إلي هكذا، إسمح لعابك أيها المغفل، اللعنة ، أنت! لا تحرك هذا الغطاء ، دونوفان أنظر إلى نفسك تبدو مثل عجل في مجاعة، هيا أسرعوا واغسلوا وجوهكم ، لا تقتربرو مني بهذه الحالة المزرية أيها القذرون!” ضاحكًا وشاتمًا بصوت عالٍ ، طرد ليدول الحيوانات آكلة اللحوم التي استيقظت لتوها ، وواصل عمله وسط هتافات الجنود.
“هل تعرف يا لافاييت؟” أخرج ليدول سكين حاد من جيب بنطاله وبدأ في تقطيع لحم الخنزير المقدد.
“أوه ، مالأمر؟..” لم ينظر المدفعي الشاب لافاييت إلى الرقيب الذي حدثه ، بل نظر إلى مياه النهر الفوارة تحت أشعة الشمس وسأل بشرود.
“أفضل طريقة لقلي لحم الخنزير المقدد هي بالزبدة ، الزيوت الأخرى ستفقدك تلك الرائحة الخاصة والعصارة.”
“أوه؟ هل هذا صحيح؟”
“ألم تخبرك والدتك بهذا؟”
“لا ، كانت أمي تقليه بشحم الخنزير”. تذكر لافاييت مشهد والدته وهي تبكي سرا في المطبخ يوم التحاقه بالجيش، مخفية حزنها عنه وعن أخواته الصغيرات ، ولم يسعه إلا أن يتنهد. الآن كان كل ما يريده هو قطعة من لحم الخنزير طهتها والدته، ولم يكن يهتم لأي زيت إستعملت.
“آه ، إذن فاليوم يوم حظك ، سأدعك تجرب لحم الخنزير المقدد الحصري المطبوخ من قبل العم ليدول. سأعطيك شريحتين إضافيتين بعد ذلك. هيهي! …” لم يلاحظ ليدول شرود لافاييت ، فواصل إعداد فطوره اللذيذ بسعادة.
“طق طق …”
كان هذا هو صوت لحم الخنزير المقدد وهو يفرقع في المقلاة الساخنة، وبدأت الرائحة الفريدة من لحم الخنزير المقدد بالزبدة في الظهور في الهواء.
“سأكون شاكر لك أيها الرقيب.” نظر لافاييت إلى الغابة الكثيفة على الجانب الآخر حيث يفترض أن يوجد الألمان وابتسم.
لا يُسمح بطهي الطعام في المواقع على الخطوط الأمامية، ناهيك عن إشعال النار للطهي ، حتى محاولة غلي قدر من الماء غير مسموح بها وتحاسب بشدة إذا علم بها كبار الضباط، لا يمكن تسمية الموضع حيث لافييت بأنه موقع ، ولكنه في الواقع مستوطنة مراقبة على الخطوط الأمامية. منذ أن أصدر أمر التعبئة للقتال حتى آخر رجل ، تم تعزيز جميع المواقع الدفاعية للجيش الفرنسي.
تم التخلي عن المواقع الدفاعية السابقة على شكل خط والتي تميزت بالخنادق الكثيفة. ويقال أن هذا يرجع إلى أن المارشال ويغان يعتقد أن مثل هذا المواقع هشة مثل قطع من الورق أمام القوات الألمانية المدرعة الرهيبة. وهي ببساطة لا تناسب وضع القتال الحالي. بدل من ذلك، طلب المارشال من جميع القوات التجمع في سلسلة من القرى والبلدات الصغيرة بالقرب من خط الدفاع ، ثم بناء تحصينات قوية هناك لربط هذه القرى والبلدات والحصون في خط ، وهذا ما يسمى بخط دفاع ويغان.
يعتقد المارشال ويغان أن هذه القرى والبلدات الموحدة ستقف هناك مثل المسامير لكبح تقدم المد الألماني، ويمكنها أيضًا أن تستنزف قوة وموارد الألمان. أراد ويغان استخدام هذه الطريقة لمنع النازيين من الاستمرار في التقدم إلى العمق الفرنسي. ببساطة أراد تحويل هذه الحرب إلى حرب استنزاف مثل الحرب الماضية ، لأنه كان يعلم أن هذه الطريقة واحدها يمكنها إيقاف آلة الحرب الألمانية المجنونة من دك الدولة.
كان حكم ويغان دقيقًا ، وكانت استراتيجيته صحيحة ، والتكتيكات التي اختارها تركت الناس عاجزين عن الكلام.
كانت البؤرة حيث يخدم لافاييت هي أحدى حلقات أول خط دفاع فولاذي رسمه المارشال ويغان، ولكن بغض النظر عن نظرتك إليها ، فإنها أصغر قليلاً من قائنها، تم بناء الموقعهم الاستيطاني على هضبة تربة صغير يبلغ ارتفاعه عشرة أمتار فقط ، على بعد أكثر من 30 مترًا عن ضفة نهر السوم. من وجهة نظر جغرافية ، كان موقعًا مثاليًا للمراقبة والإنذار ، لكنه لم يكن بالتأكيد مكانًا مثاليًا لنصب المدافع. نظرًا لوجود حقل فسيح بالقرب منهم ، فإن تل التراب الصغير هذا يقف هناك بشكل مكشوف. و ليس له أي قيمة عسكرية باستثناء القدرة على اكتشاف تحركات العدو على الجانب الآخر مبكرا وأن يشكلو هدف مثالي لمدفعية العدو.
وهذا هو أيضًا السبب في قيام قائد الفوج بإنشاء هذه النقطة الاستيطانية هنا ، فإذا أراد الألمان الهجوم من هذه النقطة من المستحيل عليهم تفويت ذلك. إذا أبلغت البؤرة الاستيطانية عن هجوم ، فهذا يعني أن الهجوم قد بدأ ، وسيكون لديهم وقت تحذير كافٍ للقيام بكل الاستعدادات للمعركة. وهذه أيضا طريقة لا مفر منها ، فهم لم يتلقو أي معلومات استطلاعية جوية منذ أكثر من شهر. و كانت القوات الشقيقة على جانبيه الأيمن والأيسر تقبع في أراضي منحدرة على ضفاف النهر وسط مستنقعات وتلال متدحرجة ، لكن خط الدفاع الأول الذي دافعو عنه كان عبارة عن حقول مسطحة ، دون أي ميزة جغرافية يمكن الاعتماد عليها.
من الخطر وضع القوات في مثل هذه التضاريس غير الآمنة ، خاصة عندما لا توجد معلومات محددة عن العدو. لذلك ، أطاع العقيد دي فادواي بصرامة أمر المارشال ويغان ، وركز كل قواته في قرية إيتنا على بعد اثني عشر كيلومترًا ، وبنى هناك ثلاث طبقات من التحصينات. على الرغم من أنه لم يكن متأكدًا من أن هذا سيكون قادرًا على تحمل الهجوم الألماني ، إلا أنه يعتقد أنه بغض النظر عن مدى قوة الألمان ، سيتعين عليهم دفع ثمن باهظ للاستيلاء على قلعة القرية هذه. طالما أن الألمان يتأخرون بما يكفي لتحصل القوات الموجودة في المؤخرة على الوقت للاستعداد ، فإن أي تضحيته تستحق العناء. من أجل النصر النهائي لفرنسا ، كان العقيد دي فادواي على استعداد لتقديم كل ما لديه.
كانت النقطة حيث لافاييت هي الضحية الأولى لهذه الاستراتيجية ، حيث كانت هذه البؤرة الاستيطانية الصغيرة بها مخبأ دفاعي صلب ، وكان جدار حجري يبلغ ارتفاعه الصدر بسمك خمسين سنتيمترا يشكل الجسم الرئيسي للبؤرة الاستيطانية. كانت تلك الجدران الحجرية موجودة قبل أن يأتي لافاييت إلى هنا ، واستناداً إلى حالتها المتداعية والمتضررة ، يمكن الجزم أنها بقيت هناك لما لا يقل عن مائة عام. وقد سمع من كبار السن في القرية أن جيشًا رومانيًا كان يتمركز هناك ذات مرة ، وهذه الجدران الحجرية هي بقايا قلعة بناها الرومان. كان لافاييت مقتنعًا بهذا ، لأن الجدار الحجري كان في الواقع صلبًا للغاية ، لكن هذه الصلابة استندت إلى حقيقة أن الخصم لم يكن لديه مدافع. تحت قصف المدفعية الألمانية الثقيلة لن يصمد هذا المبنى طويلا.
هناك 17 شخصًا متمركز هنا بما فيهم لافاييت ، وهم لا يشكلون فرقة واحدة ، وأعلى ضابط عسكري هو الرقيب ليدول، و على الرغم من أن لافاييت عاش حياة سعيدة للغاية تحت قيادة هذا الرقيب ، إلا أنه لا يزال لديه شعور خافت بأنه ورفاقه منفيون بشكل غير مباشر. لابد أن العقيد قد أراد إلقاء بعض الجنود البغيضين بالنسبة له على خط المواجهة هنا كعقاب على انتهاكاتهم السابقة. لكن ما حير لافاييت هو كيف تم تصنيفه بين المنفيين؟ فقد كان دائمًا فخوراً بكونه جنديًا نموذجيًا يطيع الأوامر، ولا يجب أن يمتلك العقيد أي شيء ضده.
ومع ذلك ، على الرغم من أن موقع لافاييت كان صغيرًا من حيث العدد ، إلا أن قوتهم النارية كانت قوية بشكل غير متوقع. فبالإضافة إلى بندقية M36 ، زودهم العقيد أيضًا بثلاثة مدافع رشاشة من طراز M1924 ومدفع سريع النيران عيار 37 ملم. كما أن الذخيرة وفيرة. في الواقع ، ليست هناك حاجة إلى وضع مثل هذه القوة النارية القوية هنا. يجب وضع هذه الأسلحة في الأماكن التي تحتاج إليها أكثر. ويعتقد لافاييت أن هذا قد يكون تبرير للعقيد بأنه لم ليضعهم في مثل هذا المكان الخطير عن قصد، وهو أشبه بالتعويض. لكن لافاييت لم يعتقد أنه يستطيع مقاومة الهجوم الألماني بهذه الأسلحة ، فقد يمثل هذا النوع من القوة النارية القوية بين ايدي قوة ضعيفا سببًا أفضل لتفجير الألمان لهذه البؤرة الاستيطانية بالمدافع.
“لافاييت ، تعال إلى هنا بسرعة وخذ نصيبك. لقد جهز اللحم!” صوت ليودل أعاد لافاييت إلى رشده مرة أخرى. نظر إلى الوراء ورأى مجموعة من الجنود جالسين حول ليدول ، كل منهم يحمل طبقًا ويأكل باستمتاع ، بينما كان ليدول يبتسم له ويعرض عليه طبقا.
“شكرا لك أيها رقيب.” مشى لافاييت لأخذ الطبق.
“لماذا لم يتم تسليم الخبز بعد؟ سيكون من الأفضل تناول اللحم مع بعض الخبز”. اشتكى جندي وهو يمضغ لحم الخنزير المقدد.
لأنه لا يُسمح بطهي الطعام في المواقع الأمامية. وظروف هذه البؤرة تجعل من المستحيل تخزين الطعام الطازج ، وقد تم إدراج تلك الأطعمة المعلبة في كتالوج السلع المكملة في قوات الخطوط الأمامية الفرنسية ، والكمية تكفي فقط لاستخدامها من قبل الضباط ليستمتعون بها ، والجنود العاديون مثلهم لا يمكنهم ان يحلمو بذلك. لذا ، يتم توصيل الوجبات الثلاث في اليوم إلى هذه البؤرة بالشاحنات من قرية إيتنا ، على بعد اثني عشر كيلومترًا ، ويمكن للمرء أن يتخيل كيف سيبدو الطعام بعد رحلة وعرة. علاوة على ذلك ، وبسبب نقص الإمدادات ، تتدهور جودة الطعام بشدة ، حيث لا يمكن لكل منهم سوى الحصول على نصف كيلوغرام من الخبز وثلاث أطباق من مرق الكرنب والبطاطس كل يوم ، وتعتمد قابليته للأكل على وقت تخزينه. لأنه من المستحيل تشغيل الشاحنة ثلاث مرات في اليوم لإيصال الوجبات واحدة تلو اخرى، فيتم تسليم الحصص اليومية معا في وقت واحد.
لهذا السبب ، حصل يودل سراً على موقد صغير ومجموعة من لوازم المطبخ ، وبدأ في بناء مطبخه الصغير شيئا فشيئا. في البداية ، أعرب لافاييت عن مخاوفه حول هذا الأمر ، ولكن عندما ابتسم له يودل وعرض عليه الاختيار بين الطعام اللذيذ و “طعام الكلاب” ، تنازل لافاييت.
وقد كانت حجة ليودل منطقية عندما تفكر فيها الأمر بعناية ، يتم وضع هذا النوع من اللوائح العسكرية -منع الطهي واضرام النار- لمنع العدو من اكتشاف المواقع المخفية، بينما كان موقعهم مكشوف على أي حال وابرز من نور المصباح في عتمة الليل ، ناهيك عن إشعال الموقد ، حتى لو تم إشعال النار ، فماذا في ذلك؟
ابتسم ليدول ورفع يده ليضرب الجندي الذويق الذي طالب بالخبز على رأسه : “فقط تناول طعامك وكن شاكرا”.
“اه، إنه صوت الشاحنة! دونوفان ، أنت محظوظ جدًا ، سيكون لديك خبز قريبًا.”
وقف الجنود جميعًا ونظروا نحو الطريق خلف التل.
“لا تنظروا ، أحزموا الطعام بسرعة ، ولا تدعوا الشخص الذي يسلم الطعام يرى هذه الأشياء.”
أمر ليودل بصوت عالٍ ، وسارع الجنود لإخفاء أطباقهم بعناية في زواياهم. وبعد فترة ، عادت الفوضى المعتادة إلى البؤرة الاستيطانية.
“ليأتي البعض للمساعدة ، لقد تم تسليم طعامكم.” بمجرد أن سقطت الكلمات ، سار رقيب طويل في منتصف العمر إلهم.
“الرقيب ديوار ، لماذا أنت هنا؟” تقدم ليدول بابتسامة وأمسك بيد الرقيب.
“ما الأمر ، هل سئمت البقاء في مطبخ الضابط الخاص بك ، هل خرجت بغيت إستنشاق الهواء؟”
“لن أفكر في هذا حتى تنقضي هذه الحرب، أنا هنا لأرشد رجالي، فقد تعرض المجندان الذين يأتيانكم بالطعان لحادث أمس وانقلبت السيارتهما بأكملها في حفرة للري ، وهما يرقدون في المستشفى الآن. اختار العقيد اثنين من الجنود الجدد ليحلوا محلهم ، لكنهما لم يعرفا الطريق ، وصادف أنني كنت أرغب في رؤيتك ، لذا انتهزت هذه الفرصة للمجيء إلى هنا.” أجاب الرقيب ديوار بابتسامة ، إنه رئيس الطهاة في السرية ، وقد جلس هو وليدول في نفس الخندق في ما مضى، و العلاقة بينهم وطيدة جدا.
“هاه؟ ماذا تفعل هناك؟ أشتم رائحة لحم الخنزير المقدد. من أين لك كل هذه الأشياء؟”.
“مالذي تتحدث عنه؟ هل تعتقد أنني شخص يمكنه الحصول على هذا النوع من الأشياء؟” حاول ليدول جاهدًا أن لا يضحك.
“لا تحاول قول هذا لي ، أنت تستهين بمقدرة أنفي في تمييز الروائح، حسنا، بغض النظر عما تقوم به فإنني معجب بك، يمكنك الحصول على هذه الأشياء في هذا الوقت وهذا المكان؟ حتى أنني لم أرى اللحم منذ أسبوع أو أسبوعين. سمعت أن قسم الكتيبة لديه بعض المخزون ، لذا فمن الممكن أنك.. اوه … انس الأمر ، أنا لا أهتم لما تقوم به ، اطلب من فتيانك هؤلاء الذهاب لمساعدة المبتدئن أسفل التل على نقل الطعام، فكمية اليوم كبيرة نسبيًا، فحصة الغد مرفقة بها”. قال ديوار بصوت عالٍ.
“اوه، أحقا ذلك؟ بيير ، ديفيد ، إذهبا للمساعدة!” أدار ليودل رأسه وأمر الجنديين ، ثم نظر إلى ديوار بريبة وسأل ، “على كل حال، لماذا عليك إرسال حصص يومين معًا؟”
“لا أعلم. سمعت أن كبار المسؤولين أصدروا أمرًا ينص على وجوب إيقاف جميع المركبات في حصونها خلال اليومين المقبلين ، ولا يُسمح لهم بالخروج دون إلحاح ظروف خاصة. لذلك أمرنا العقيد بإيصال حصص يومين بينما ينقضي هذا الأمر.” حك ديوار رأسه وأظهر نظرة عاجزة.
“هل سيهاجمون؟”
“لا أعرف. لم يذكر لي السبب ، لذلك من الصعب علي أن أسأله، ولكننا رصدنا بالفعل عدة طائرات ألمانية تحلق فوق القرية خلال اليومين الماضيين، فلا أستعجب إن أعد الألمان شيئا” قال ديوار بصوت منخفض.
“تقول طائرا ، ألم نشاهد طائرة ألمانية كثيرا؟ يبدو أنها تحلق من اتجاه آخر. زلا أعتقد أن هذا هو السبب.” قال ليودل بتعبير جاد.
هز ديوار كتفيه “ما أدراني؟ على كل حال لسنا في حاجة إلى التكهن. لا أعتقد أن رؤسائنا يعرفون أكثر منا. أعتقد أنه يجب أن نكون أول من يعرف ما إذا هاجم الألمان، والأصدقك القول لست متحمس مع هذه الحقيقة. لكني شخصيا أعتقد أن احتمال هجوم الألمان حاليا غير مرجح. سمعت أشاعات مفادها انهم يعانون بعض المشاكل الآن ، وإلا لكانوا قد أتوا قبل أكثر من شهر حين كانت اللقمة سائغة، وما كانو لينتظرو حتى الآن. أعتقد أن حظ الألمان ينفد. كما ألقى رئيس الوزراء رينو خطابًا في إذاعة باريس مساء أمس تقديرًا لشجاعة الجيش الفرنسي في المرحلة السابقة، و لم أستشعر في لهجته أي تلميح أو إعداد لخطر وشيك”.
“لا أظن ان الوضع يمكن معرفته من افواه السياسيين، لكنني أتفق معك فلم يصدر المقر أي تنبيه لنا حتى الآن. ولعل هذا الشعور بالترقب هو أكثر ما يقلقني ، لدي شعور سيء يا ديوار، وأنت تعرف ما يأتي بعض الإنتظار في الخنادق خلال الحرب الأخيرة، ففي كل مرة ينتظر الألمان بصمت مانحين أيانا السلام، تكون تلك فاتحة إغارة أليمة جديد لائحة في الأفق”. قال ليودل بنظرة حزينة.
“يا رجل لا تخفني بتشاؤمك، هذه ليست الحرب العظمى. لا أعرف بماذا تفكر لكن إن صدق إحساسك ، لكان على المسؤولين الأعلى نقلك إلى وزارة الدفاع منذ فترة طويلة ، وماكنت لتستلقي هنا تحت الشمس” ابتسم ديوار وربت على كتف ليدول ، ثم أدار رأسه ونظر أسفل التل.
“لماذا لم يحضر هؤلاء الرجال الأشياء بعد؟ لا يزال يتعين علي العودة وإعداد قائمة حصص الغداء لقائد السرية.”
في هذه اللحظة ، هتف لافاييت الذي كان يحمل المدفع الرشاش ويراقب الجانب الآخر من النهر فجأة بصوت عالي “الرقيب ليودل ، تعال إلى هنا بسرعة. أعتقد أنني اكتشفت شيئًا ما. هناك تحرك من جانب الألمان!”
صرخة لافاييت صدمت الجميع تماما ، وسرعان ما انقض الجنود على فتحات إطلاق النار الخاصة بهم ونظروا عبر النهر.
“لافاييت، ماذا رأيت؟.” مشى ليودل إلى جانب لافاييت ونظر عبر الضفة.
“هناك عند حافة الغابة ، رأيت ظل ، كما لو كان هناك أشخاص يتجولون هناك.” صاح لافاييت مشيرا إلى الغابة المقابلة.
“اهدأ ملازم لافاييت.” أخرج ليودل منظارًا من حقيبة على خصره ، ونظر نحو الغابة. وما لبث أن لهث.
“بركة يسوع…” عدّل يودل المنظار بسرعة وبعناية. ثم ألقى به في ذراعي لافاييت ، واستدار واندفع نحو الهاتف الموجود على الأرض بجانبه.
“ماذا رأيت!”
كان دوار خائفًا من رد فعل ليدول ، وليس هو وحده، ولكن رد فعل الرقيب العجوز أخاف كل الحاضرين ، ونظرو إليه في ذعر. لم يرد يودل على الاستفسارات التي طالته ، فخلع سماعة الهاتف ثم بدأ يهز مقبض الهاتف بشدة.
“صلني بمقر الفوج بسرعة. إنها حالة طوارئ.” صرخ ليدول بصوت عالٍ في الهاتف ، ثم نظر إلى ديوار المذعور وقال بصوت عميق ، “الألمان على وشك الهجوم”.
“ماذا؟ ، ما الذي رأيته بالضبط ، ولماذا قلت إن الألمان سيهاجمون”. شهق ديوار.
“اذهب ونظر بنفسك!”، رد ليودل بغضب.
“أريد أن أرى ما الذي يجعلك تشعر بالذعر. أيها الجندي! أعطني المنظار، ماذا ترى هناك؟” مشى ديوار نحو لافاييت.
وقال لافاييت “لا أعرف ما الذي رآه الرقيب ليدول، لكن كان هناك ألمان في الغابة المقابلة”.
في هذا الوقت ، بدأ ليودل في الإبلاغ بصوت عالٍ على الهاتف: “العقيد دي فادواي ، معك الرقيب ليدول، لقد رصدت شيئًا وأعتقد أن الألمان على وشك مهاجمتنا … ماذا؟ أنا متأكد تمامًا ، لقد رصدت موقع مراقبة المدفعية الألمانية الكامن في الغابة المقابلة لنا ، وهناك عدد لا يحصى من المشاة.. أفواج منهم.. نعم ، يمكنني رؤيتهم بوضوح ، هم يستعملون وحدة قياس نطاق المدفعية … لكننا قريبين بالفعل”.
ثم تغيرت لهجته ليدول بسرعة من الجدية إلى السخط “أنا أعرف الوضع الآن.. افهم ذلك!.. ألا يعني هذا شيئًا؟ ماذا قلت؟ انا لا افهم قصدك… ماذا.. سيكون الوقت قد فات عندما يهاجمون. . . . أنا. . . . حسنا فهمت ، أريدك أن تكون مستعدًا للمعركة على الفور. سوف أخطرك بمجرد أن يكون هناك أي جديد. وداعا سيدي العقيد”.
أغلق لودور الهاتف ثم وقف غاضبًا يشتم: “هذا البيروقراطي اللعين، إبن الساقطة، لم يصدق كلمة من ما قلته، قال إنه سينظر في الأمر عندما يكون لدي أخبار أكثر تحديدًا ، وقال إنه لم يتلق أي أخبار في هذا الصدد، ما الدليل الذي يحتاجه ، هل سيصدق عندما تحلق القذائف الألمانية على رأسه؟”.
أدار دوار رأسه وقال. “أعتقد أنك قد تكون على حق ، أرى الألمان أيضًا…”
“لقد رأيت ذلك أيضًا ، أليس كذلك؟ إنهم يخفون أنفسهم جيدا ، لكنهم ما زالوا أسوأ من أسلافهم منذ أكثر من 20 عامًا” قال ليودل بحماس لديوار.
“لكن يا يودل، هذا وحده لا يكفي لتحديد ما إذا كان الألمان سيهاجمون فعلا. ربما يقومون باستطلاع لا غير” قال ديوار بتردد.
“الاستطلاع ، وماذا يأتي بعد الإستطلاع؟ إضف إلى ذلك من يحتاج استخدام جهاز تحديد مدى المدفعية للاستطلاع؟”.
“من الممكن أيضًا أن تعمل هذه الأشياء بشكل أفضل من المنظار و وحدات العادية، أود أن أقول لك نفس ما قاله العقيد، فبدون أي دليل قاطع لا يمكننا المخاطرة ، وأعرف ما ممرت به من كرب خلال الحرب السابقة، لكن عليك ألا تسمح لأعصابك بأن تحكمك يا يودل”. قال ديوار ليودل بعد أن إستوسم فيه بوادر الانفعال.
“ماذا! أتلمح إلى أنني أهذي هذيان الرجال الذين كسرتهم الحرب؟ ومن عساه يعوض إن مات الجنود الشباب لعدم إغتنامنا الفرصة برؤية العدو يعد العدة للهجوم! ليكن في معلومك أنت والعقيد أن هؤلاء الرجال ليسو مجرد أرقام! أنهم حيوات . . . وأنت. . . . ” احمر وجه ليدول من الغضب وكان على وشك الاندفاع نحو ديوار ، لكن صوت غريب صدا في الهواء فجأة، وبدا وكأنه مزمار حاد ، ثم سمع صوت تحطم عنيف خارج الموقع متبوع بانفجار وبدا العالم كله يهتز لبعض الوقت.
“الرقيب يودل! الألمان يطلقون النار علينا!” صرخ لافاييت بصوت عالٍ ، وانكمش الجنود جميعًا إلى جذر الحاجز وعانقوا رؤوسهم بإحكام.
“ديوار! كنت تريد دليل، ألا يكفيك هذا دليلا!؟” أمسك ليودل من بديوار من ياقته بتعبير قاتم وجره إلى حفرة إطلاق النار.
في ذلك الوقت سقطت قذيفة أخرى لكن هدف هذه القذيفة كان بعيد المنال واخطأت غايتها وأصابت نهر السوم بشكل مباشر. بعد الانفجار العنيف ، ارتفع عمود كثيف من المياه بارتفاع عشرات الأمتار إلى السماء ممزوجًا بالطين من قاع النهر.
أمسك ليدول برقبة ديوار بيد واحدة وأشار إلى عمود الماء المتساقط من النهر، وهو يزمجر ويصرخ فيه : “هذا هو الدليل! هذا هو الدليل الذي تريدونه! أخبرني الآن هل أنت سعيد؟ هل كان الألمان يستخدمون وحدات قياسة المدافع كمناظير؟ هذا هو أغبى شيء سمعته على الإطلاق! بالله عليك إن لم تكن أعمى هل لا تزال تعتقد أن مشاعري وأهوال الحرب لا تزال تحكم علي؟؟”…
-نهاية الفصل-