59 - لا رجعة (3)
الفصل 59 – 59: لا رجعة [3]
كانت رئتا كايل تحترقان. كل نفس كان أصعب من سابقه، كأنه يحاول امتصاص الهواء عبر قطعة قماش مبللة.
ضغطت عليه الطاقة الشيطانية المنبعثة من الشخص المقنع كيد خفية تسحق صدره.
سبح بصره على أطراف بقع داكنة ترقص أمام عينيه.
وقف الرجل المقنع ساكنًا تمامًا وسط المذبحة المحيطة به.
أجساد ملتوية في أوضاع غير طبيعية حوله، دمها ينتشر ببطء على أرضية المستودع في برك مظلمة.
ملأ العطر النحاسي أنف كايل، ممزوجًا بشيء أفظع. رائحة السحر الفاسد، السحر الشيطاني.
قناعه.
جلد أسود مشدود بإحكام على وجهه، بخياطة حمراء فجة تُشكل ابتسامة غريبة دائمة.
شد الخيط على القماش، مما جعل الفم يبدو وكأنه يجهد ضد قيوده.
لكن العيون… تلك العيون القرمزية المتوهجة عديمة المشاعر، ثاقبة في كايل بشدة مرعبة.
لم ترمش.
لم تتراجع.
فقط حدقت بصبر بارد كصبر مفترس يعلم أن فريسته لا تستطيع الهرب.
شدّت أصابع كايل حول مقبض سيفه. كانت راحتاه زلقتين من العرق، جاعلةً قبضته زلقة.
صرخت به كل غريزة أن يركض، أن يقاتل، أن يفعل شيئًا. لكن جسده رفض الانصياع.
كادت ساقاه أن تلتصقا بالأرض. شعر بذراعيه ثقيلتين، ثقيلتين جدًا بحيث لا يمكن رفعهما.
صرخ عقله: “تحرك!”. “تحرك يا إلهي!”.
أمال المقنع رأسه إلى الجانب، وكانت الحركة بطيئة ومتعمدة.
صرّ الجلد بصوت خافت.
ثم، بإهمال مرعب، خطا خطوة للأمام.
أصدر الحذاء صوتًا خافتًا مبللًا وهو ينزل في بركة من الدماء.
خطوة.
أخرى.
كان الصوت منهجيًا.
غير مستعجل.
تردد صدى كل خطوة في مستودع الأفاعي الصامت. لم يكن هناك أي ضجيج آخر، فقط تلك الخطوات البطيئة الحتمية التي تقترب.
دق قلب كايل على ضلوعه كطائر محاصر.
جفّ فمه. امتلأ فمه بطعم النحاس.
عضّ على لسانه دون أن يُدرك.
رفع الرجل المُقنّع سيفه.
كان النصل أسود كالظلام، إلا من الدم الطازج الذي سال على طوله كجداول كثيفة.
سقطت القطرات الحمراء على الأرض واحدة تلو الأخرى، وكان لكل صدمة صوتٌ عالٍ لا يُصدّق في هذا السكون.
تغلبت غريزة كايل للبقاء أخيرًا على رعبه.
تألّق برقٌ أزرق-أبيض على جلده، وصعقته اللدغة الحادة التي صعقت عضلاته.
ألقى بنفسه جانبًا في اللحظة التي سقط فيها السيف بضربة قطرية شرسة.
انفجر الألم في عظمة الترقوة عندما أصابه طرف السيف.
احترق كالنار والجليد في آنٍ واحد.
الجرح ينبض بطاقة سوداء حمراء مريضة قبل أن يتلاشى الفساد، تاركًا وراءه قشعريرة غير طبيعية تسربت إلى عظامه.
يا للهول!
تراجع كايل إلى الوراء، واضعًا مسافة بينهما.
طارت يده الحرة إلى الجرح، وخرجت زلقة بالدم.
لم يطارد الرجل المقنع على الفور.
لقد راقب فقط.
أوحى إمالة رأسه بالفضول. كما لو كان كايل عينة مثيرة للاهتمام كان يشرحها.
لم ينتظر كايل حتى يتحرك وضرب يده لأعلى.
انفجرت المسامير الجليدية من الأرض بصوت يشبه صوت الكريستال المتكسر.
انطلقت نحو الشكل المقنع بدقة مميتة.
لم يكلف الرجل المقنع نفسه عناء المراوغة.
بحركة عابرة من معصمه، رسم سيفه قوسًا كسولًا عبر الهواء.
شق هلال من الطاقة الشيطانية السوداء الحمراء إلى الخارج، والتقى بالمسامير الجليدية في الهواء.
انفجرت إلى شظايا غير ضارة تساقطت مثل الغبار المتلألئ.
استمرت موجة الطاقة الشيطانية دون رادع، مجبرة كايل على الالتواء جانبًا في اللحظة الأخيرة.
حتى الحادثة التي كادت أن تُصيبه بحروق، وملابسه تدخن حيث لامسته الطاقة الشيطانية.
ملأت رائحة القماش المحترق أنفه.
قبل أن يتمكن من استعادة توازنه، كان الرجل المقنع فجأة أمامه، قريبًا جدًا لدرجة أن كايل استطاع رؤية الغرز الفردية في تلك الابتسامة الغريبة.
حُفرت قبضة في معدة كايل بقوة كبش ضارب.
غادر كل الهواء رئتي كايل في صفير.
انثنى جسده من الصدمة، وتناثر الدم من فمه.
ثم طار في الهواء، طائرًا إلى الخلف حتى اتصل عموده الفقري بجدار المستودع بقوة كافية لكسر الحجر.
تساقط الغبار والحطام حوله وهو ينهار على الأرض.
سرى الألم في جميع أنحاء جسده. تشوشت رؤيته، واعتمت أطرافه.
من خلال الضباب، رأى الرجل المقنع يقترب مرة أخرى. رفع سيفه للضربة القاضية.
بلهفة يائسة. مدّ كايل يده وأطلق ريحًا مركزة نحو يساره.
دفعته القوة جانبًا في اللحظة التي سقط فيها النصل الأسود، قاصدًا الحجر حيث كان رأسه قبل ثانية.
لكن ليس بالسرعة الكافية.
انفجر ألمٌ لم يختبره من قبل في ذراعه اليسرى.
نظر كايل إلى أسفل في رعب ليرى ساعده ملقى على الأرض على بُعد أقدام، وأصابعه لا تزال ترتعش.
تدفق الدم من الجذع، صبغ الأرض بلون قرمزي.
“آآآآه-!”
مزق صراخٌ حنجريٌّ حلقه الخام والبدائي.
غشّت الدموع بصره بينما وخز ألمٌ أبيض حارق أعصابه. انتفض معدته، وارتفعت الصفراء في حلقه.
أطلّ الرجل المقنع على جسد كايل المكسور، وظلّه يُلقي بظلاله الطويلة على الأرض الملطخة بالدماء.
كان كايل يرقد يلهث، وكل نفسٍ يتنفسه كفاحٌ مُبللٌ يغلي.
سبح بصره بين الوضوح والغموض، لكنه ما زال يرى تلك العيون القرمزية وهي تحرق الظلام.
سقطت على صدره تراقبه، تنتظر. كما لو أنها تستطيع الرؤية من خلال الجلد والعظم إلى حيث ينبض قلبه كحيوانٍ محاصر.
دون سابق إنذار، اندفع حذاء الرجل المقنع بقوةٍ هائلةٍ ملامسًا ضلوع كايل.
رفعه الاصطدام عن الأرض، وأرسله يطير إلى أعلى.
دار الغبار والدم في أعقابه وهو يتأرجح في الهواء.
للحظةٍ واحدةٍ من انعدام الوزن، علق كايل.
ثم رآه، كان الرجل المقنع فوقه يتحرك في حركةٍ ضبابية.
حاول كايل الابتعاد عن الطريق مع هبوب الرياح المركزة كما في السابق. لكن الوقت كان قد فات.
ركلت ركلة فأس ضلوعه، ودفعته إلى أسفل كنيزك. أصبح العالم ضبابًا من الحركة والألم حتى –
طقطقة!
تحطم جسده على الأرضية الخرسانية بقوة تحطم العظام.
أحدث الاصطدام حفرة في الأرض تحته، وأرسل شقوقًا تشبه شبكة العنكبوت تتسابق للخارج.
انفجر الغبار والحطام لأعلى في سحابة خانقة.
قبل أن يتمكن كايل من التأوه، كان الرجل المقنع هناك مرة أخرى.
شبح مظلم يخرج من الغبار المستقر.
سحقت حذائه على الخرسانة المكسورة وهو يقترب بهدوء مرعب.
ثم جاءت الضربة النهائية.
نزل حذائه مثل المقصلة التي تسحق أضلاع كايل بصوت مؤلم.
انفجر الألم في جميع أنحاء جسده، وكان شديدًا لدرجة أن أعصابه توقفت ببساطة.
بدأ نبض قلبه، الذي كان مذعورًا في يوم من الأيام، في التعثر.
جاءت كل نبضة أبطأ من سابقتها، وتمتد الفواصل إلى الأبد.
أظلمت حواف رؤيته، وضاقت الدنيا في نفقٍ تتوسطه عيناه الحمراوان المتوهجتان.
لفظ أنفاسه الأخيرة المرتعشة، تحمل بقعًا قرمزية.
ثم صمت.
سكون.
وقف الرجل المقنع بلا حراك فوق جسد كايل المدمر، رأسه مائل قليلاً إلى جانب واحد كطائر فضولي.
صرير قناعه خافت وهو يتأمل ما صنعه.
لم يزعج أي ارتفاع أو انخفاض في أنفاسه بقايا قميص كايل الممزق.
مسح قلب كايل بعينيه القرمزيتين.
لا نبض.
ميت.
سقط جسد كايل هناك مكسورًا وساكنًا.
بركة من اللون الأحمر تنتشر ببطء على الأرضية الخرسانية.
ساد الصمت المستودع.
ألقت الأضواء المتلألئة بظلال راقصة طويلة على مشهد المذبحة.
سقطت قطرة ماء واحدة من أنبوب متسرب، وتردد صدى صوتها في الفراغ.
رنين.
ثم لا شيء.
***