484 - السخرية
لم تتفاجأ فرانكا على الإطلاق على الرغم من أنها تساءلت عن سبب حدوث أشياء كثيرة في هذا المكان اللعين.
هذه هي ترير العصر الرابع حتى لو لم تكن أرض إله ساقط فلن تفتقر إلى الشذوذات!.
خرج لوميان والآخرون بحذر من مخبئهم ونظروا من نقاط مراقبة مختلفة نحو مصدر الأجراس.
لم يكن الموقع بعيدًا لكن الضباب في ذلك الإتجاه بدا كثيفًا بشكل غير عادي حيث لاحت الهياكل في الأفق بشكل خافت كما لو أن مجرد جزء من التاريخ ظهر.
في أعماق الضباب مرت أداة غريبة تشبه قاطرة بخارية دون ضجة تحتوي على عربتين فقط وتفتقر إلى مدخنة.
بها إطارات غريبة ممتدة من الأعلى وتربطها بشيء معلق في الهواء.
رنين!.
دخل القطار في منطقة كثيفة الضباب مختفيا عن الأنظار.
على الرغم من أن فرانكا ورفاقها لم يتمكنوا من تمييز التفاصيل بوضوح إلا أن خوفًا غير مبرر سيطر عليهم كما لو أنهم واقفين أمام الهاوية أو داسوا على شفرات تخترق جلدهم، قبل أن يتمكنوا من التفكير في تداعيات تحول الضباب ووصول هذه الأشياء الغريبة غرق محيطهم في ظلام عميق حيث إنحسر الغسق ولوح الليل في الأفق، غطى ضباب كثيف المنطقة حينها شعر لوميان بوجود إضطراب مزعج وأراد الهروب منه، الضباب غير الطبيعي – الملوث باللون الداكن – أعاق أي محاولة “للإنتقال الفوري” إلى منطقة غير متأثرة.
وراء الضباب توجد البرية التي أتوا منها لكنها إستعصت على حواسه.
تخلل الضباب البارد بشرتهم مما أدى إلى إرتعاشات لا إرادية لدى فرانكا وجينا.
في الوقت نفسه تقريبًا عادت الحياة إلى الشارع الضيق مع وميض لهيب الشموع ومصابيح الزيت.
إندلع الضحك والبكاء والأصوات مما أدى إلى تغيير البيئة المحيطة التي بقيت صامتة في السابق.
إنفجرت ترير العصر الرابع نابضة بحياة مع تردد صداها بالصخب ونبضات الوجود.
قام أنثوني دون تفكير واعي بمسح المنازل المتنوعة والشوارع الضيقة ليرى مبنى غير متماثل أسود اللون تدلت الشمعدانات من الأعلى ملقية الضوء على الشخص الواقف عند النافذة، إرتدى هذا الشخص قلنسوة سوداء بينما أحد جانبيه غائر والآخر بارزًا تزينه ملابس داكنة بأزرار مثبتة بشكل عشوائي وجرح يقطع جسده قطريًا من الكتف إلى الخصر… من الواضح أن سبب ذلك هو قطع عريض حاد.
في تلك اللحظة أصبح جسد الرجل المشقوق قطريًا يشبه مكعبات بناء لطفل مكدسة أو لم يتم تجميعها بشكل صحيح.
قضم بلا مبالاة فطيرة لحم ومضغ اللقمات المتساقطة من الجرح على الأرض لكنه بقي غافلاً.
ظهرت شخصيات إضافية في منازل أخرى صالحة للسكن.
بعضها مثل الشموع الذائبة التي تصلبت مرة أخرى بجلد لزج وغير واضح بينما لدى الآخرين بشرة بيضاء شاحبة بريش أبيض دهني ينبت من مسامهم ويفرز صديدًا مصفرًا، لدى البعض ثقوب صغيرة في أجسادهم حيث طارت الحشرات السوداء داخلها وخارجها، هناك أولئك الذين تحولوا إلى هياكل عظمية بيضاء مع قناع غير متطابق من جلد الإنسان يغطي وجوههم، تحول بعضهم إلى ظلال سوداء كما لو أنهم محترقين وفي الشارع الضيق تدحرجت إلى الأمام كرة صفراء وزرقاء وحمراء يبلغ إرتفاعها حوالي نصف إرتفاع الإنسان البالغ، وقف فوقها مهرج مقلوب يرتدي ملابس مبالغ فيها بشكل أذنين يختلف عن البشر ويشبه أذان الكلاب كونهم مدببين قليلاً.
غطى الشعر الرمادي الداكن وجهه المطلي باللون الأحمر والأصفر.
‘هؤلاء هم المواطنون الذين ماتوا منذ فترة طويلة في ترير العصر الرابع؟’ إرتعشت جفون لوميان.
لاحظ هو وفرانكا والآخرون أيضًا الوجوه الملطخة بالدماء والتعبيرات الباردة لهذه الشخصيات.
“مشابه جدًا لهؤلاء الأشخاص من المرآة…” تمتمت فرانكا في نفسها قبل أن تصرخ في رعب “هل من الممكن أن ينقلنا تغير الضباب الرمادي إلى ترير العصر الرابع في المرآة؟ مواطنوا ترير العصر الرابع ماتوا في الواقع ولكن الذين في المرآة ما زالوا على قيد الحياة؟”.
قبل أن تتمكن من الإنتهاء إتجهت أنظار لوميان وأنثوني نحوها وإلى جينا.
“هل حدثت هذه المشكلة بسبب هذين التمثالين مرة أخرى؟” شعرت فرانكا بوخز في فروة رأسها بينما تشرح “هل تسببوا في جذبنا إلى نسخة ترير العصر الرابع في المرآة بعد تغير الضباب الرمادي؟”.
“هذا ليس كل شيء أعتقد أنه شذوذ عالمي وبصرف النظر عن عدد قليل من الأفراد المميزين الذين يدخلون هذا المكان ربما دخلوا جميعًا إلى المرآة بعد أن غلفهم الضباب الرمادي المتوسع” لاحظ لوميان أن الشارع الضيق مفعم بالحيوية وتأمل للحظة “الإحتمال الأكبر هو أن التمثالين قد أثارا العصر الرابع مما تسبب في تغييرات مثل توسع الضباب الرمادي”.
صمتت جينا للحظة قبل أن تتجهم “لكننا هنا منذ فترة لماذا حدث شيء ما الآن؟ لم نفعل أي شيء…”.
“صحيح!” أدركت فرانكا فجأة “لابد أن هؤلاء المقيمين في الفندق أثاروا شيئًا ما أثناء تجولهم بعد دخولهم!”.
بمجرد إنتهاء فرانكا من حديثها ترددت صرخة مرعبة في مكان قريب.
“ساعدوني! أنقذوني!”.
حول لوميان ورفاقه إنتباههم نحو الصوت وشاهدوا رجلاً يرتدي بدلة رسمية سوداء بشعر مصفف بدقة يركض في الشارع الضيق بوجه مشوه بالخدوش والمخاط، في بعض الأحيان يدير رأسه 180° مع عينان مليئتان بالخوف كما لو أن كيانًا مرعبًا لا شكل له يلاحقه.
“أنقذوني!”.
وسط صرخاته تجمد جسد الرجل فجأة وتم سحبه لا إراديا للخلف.
“آه!”.
وسط صرخات شديدة سحب إلى الضباب الرمادي الكثيف والمباني الغامضة.
في اللحظة التالية توقف الصوت فجأة وعم الصمت تلك المنطقة حينها خفقت قلوب لوميان والآخرين بإحساس قوي بالخطر، على الرغم من أن الرجل الذي يرتدي البدلة السوداء ليس شخصًا عاديًا ويشتبه في أنه حصل على هبة – من إله شرير لنظام الإنقراض أو كنيسة المرض – حيث أفسده هذا المكان إلى حد ما، إلا أن دوران الرأس 180° جعل لوميان وأنتوني ورفاقهم يشعرون بالرعب الكامن في أعماق الضباب الرمادي كما لو أن بإمكانهم بالفعل أن يتصوروا أنفسهم “ينجرون” إليه ويختفون.
في تلك اللحظة لم يكن لديهم أي فكرة عما يجب عليهم فعله أو كيفية الإختباء.
أحاط ضباب رمادي أسود كثيف بأطلال المرآة المشتبه بها ولوح في الأفق بمخاطر مجهولة تقترب من الظل بهدوء.
تردد صوت تيرميبوروس المهيب في أذني لوميان “إستمر في الركض حتى تصل إلى العمود ولا تتوقف في الطريق أو ترجع إلى الوراء أو تنتقل فوريًا أو تسحب رفاقك”.
‘أليس… أليس هذا هو الإتجاه الذي تم فيه “إلتهام” الوحش؟ إذا بادرنا بالإقتراب ألن نرسل أنفسنا كطعام إلى بابه؟’ واجه لوميان حالة من عدم اليقين ولم يعد متأكدًا هل تيرميبوروس يشعر بخطر حقيقي وخطط للتدخل أو أنهزيستغل الفرصة لتعزيز أجندته الخاصة.
“يمكنك إختيار عدم تصديق ذلك” أضاف صوت تيرميبوروس العميق.
على الرغم من شكوكه ظلت نظرة لوميان ثابتة على المكان الذي تم “إلتهام” فيه تابع الإله الشرير.
في أعماق الضباب الرمادي وسط المباني الشاهقة التي تلوح في الأفق والمنهارة إمتد عمود أسود ضبابي في السماء… فجأة تذكر لوميان شيئًا ما.
عند مدخل المستوى الرابع من سراديب الموتى – عمود كريسمونا الليلي.
أما بالنسبة لكريسمونا فهي شيطانة رفيعة المستوى لقت حتفها خلال حرب الأباطرة الأربعة في ترير العصر الرابع!.
‘حتى إبنة الإلهة… طفلة حقيقية للشيطانة البدائية… يُشتبه في أن هذا المكان هو ترير العصر الرابع في المرآة…’ قام لوميان بمسح المناطق المحيطة ورأى أن الوضع في مكان آخر مشابه لذا صر على أسنانه وقال “دعونا نتقدم إلى الأمام! إلى العمود الأسود!”.
إشتد الشعور بالخطر مما دفع لوميان إلى القيام بمقامرة حاسمة.
‘التقدم إلى الأمام؟’ أصبحت فرانكا وجينا وأنتوني مليئين بالأسئلة حول إختيار لوميان.
شهد الجميع المصير المخيف للرجل الذي يرتدي البدلة الرسمية!.
وقف لوميان شامخًا وأعلن بصوت آمر “جينا إحملي غنائم الحرب ولا تتوقفي أو تستديري أو تسحبي أيًا من رفاقنا!” بعد أن أنهى كلماته ركضه.
نظرًا لخصوصية تعليمات لوميان ألقت فرانكا نظرة سريعة عليه وإختارت أن تثق في حكمه.
أحكمت جينا قبضتها على العملة الذهبية المحظوظة ورفعت العباءة التي تحتوي على غنائم الحرب لتحذو حذوهما، أنثوني بعد أن إنتقم لم يشعر بأي ندم أو هواجس فقد أثبت لوميان صحته عدة مرات لذلك لم يشكك فيه وتبعه عن كثب، إنطلق الرباعي بسرعة عبر الشارع الضيق – مروراً بالمهرج المقلوب الذي تدحرج للأمام على الكرة بوتيرة متعمدة – منغمسبن في أعماق الضباب الرمادي نحو العمود الأسود.
…
في إحدى زوايا ترير العصر الرابع أمام منزل أسود يشبه الحديد مزين بنمط أحمر ظهرت برية مليئة بالأعشاب الضارة في حجم ساحة عادية.
داخل عربة مفتوحة ذات لون أحمر داكن في البرية سألت السيدة قمر مرتدية ثوبًا أبيض فضفاضًا وحجابًا فاتح اللون السيدة بواليس التي وقفت بجانبها “ما الأمر؟”.
“أستطيع أن أسمع طفلي يبكي مرة أخرى…” أجابت السيدة بواليس التي ترتدي ملابس سوداء وتغطي رأسها بيدها اليمنى.
“هذا أمر لا مفر منه… إستريحي هنا وإلحقي بي عندما تتعافين” أومأت السيدة قمر برأسها وقدمت الطمأنينة.
“هل أنت متأكدة من أنك تستطيعين التعامل مع الأمر بمفردك؟” إرتعشت عضلات وجه السيدة بواليس وتشوهت بشكل متقطع.
“لا تقلقي ترك لي طفلي هدية” إبتسمت السيدة قمر بينما تجيب.
لم تعتبر أن السيدة ليل ستقدم لها الكثير من المساعدة في هذا الشأن فيمكنها الدخول لأنها بحاجة إلى البقاء بدير القلب المقدس لجذب الإنتباه ولا يمكنها البقاء في الفندق…
“حسنا” قالت السيدة بواليس بأسف.
بعد مغادرة عربة السيدة قمر والبرية عاد تعبير السيدة ليل سريعًا إلى طبيعته.
تقدمت عربة السيدة قمر التي يجرها مخلوقان يشبهان الشيطان لفترة من الوقت قبل أن يتكاثف الضباب الرمادي ويتوسع، ضاقت عينيها عندما ظهر الحبل السري الملطخ بالدماء في يدها بينما ينبعث منه ضوء شمس ذهبي لامع مما يمنع كل التآكل والتأثير، وهكذا نجحت السيدة قمر في الوصول إلى محيط أرض الإله الساقط حيث الضباب الرمادي هنا كثيف مثل الجدار.
أثناء محاولتها الإقتراب وجدت نفسها محجوبة مثل شخص عادي يواجه حاجزًا لا يمكن إختراقه.
شعرت السيدة قمر بقوة قاهرة لكنها لم تستطع المضي قدمًا.
“كيف يمكن أن يكون هذا…” همست في مفاجأة وإرتباك.
بينما تفكر في نفسها قامت السيدة قمر بمسح محيطها وفجأة تجمدت نظرتها.
على سطح مبنى مجاور يشبه القصر شبه المنهار غطى لون أحمر لامع الجدار بكلمات مكتوبة بالدم.
《ألم يخبرك أحد أن هناك ختمًا آخر هنا؟》
–+–