452 - مخطوطة
– عند ظهر اليوم التالي في القسم 2 بشارع القديس ميشيل:
سرعان ما أدرك لوميان أنه لا يبعد سوى مسافة قصيرة عن شارع القديس فارو حيث تقع جمعية الباحثون عن الحلم الخيرية على بعد مبنى واحد فقط وميدان واحد.
‘كما هو متوقع من منطقة الفنون…’ رفع لوميان حاجبيه وشعر أنه يقترب من الحقيقة والإجابات التي يبحث عنها.
نظر بعيدًا عن مسلة الشمس الواقفة بفخر في وسط الميدان وسار في شارع القديس ميشيل متتبعًا الطريق الذي يمر عبر المباني القديمة والمتهالكة، لم يستطع إلا أن يلاحظ الرسامين الفقراء وهم ينحنون فوق دفاتر الرسم الخاصة بهم عند حافة الساحة وعلى جانبي الشارع، عزف الموسيقيون ألحانهم المتنوعة بإستخدام القيثارات والكمان والمزامير وفي كثير من الأحيان نزل الحمام الزاجل برشاقة بجانب النافورة التي ترسل المياه بشكل متزامن مع الموسيقى حيث ألقت شمس الخريف الدافئة سحرًا شعريًا على المشهد، بعد أن أمضى قدرًا كبيرًا من الوقت في منطقة السوق مستغرقًا في أفكار الإنتقام أو منشغلًا بالتحقيقات أو المشاركة في المآدب نادرًا ما إنغمس في الحياة اليومية لمنطقة ترير الأساسية.
غير منزعج من ضوء الشمس والأجواء الضعيفة مرتديًا قبعة بنية مستديرة وقميصًا أزرق فاتحًا وبدلة غير رسمية ذات لون أصفر بني شق طريقه إلى حانة تسمى “مؤلفوا الدرجة الثالثة”، هنا معظم الزبائن يرتدون ملابس أنيقة ويحتسون المشروبات الروحية بأسعار معقولة ويشاركون في مناقشات حيوية حول مواضيع مختلفة، في بعض الأحيان عندما يأتيهم الإلهام يخرجون دفاتر ملاحظاتهم ويدونون أفكارهم بإستخدام أقلام الحبر التي يحملونها، عندما إقترب لوميان من طاولة الحانة لم يستطع إلا أن يسمع نقاشًا حيًا بين بعض الزبائن بخصوص المعرض الفني الأخير.
“تلك القطعة المسماة “المقهى” مثيرة للجدل بشكل لا يصدق حيث أشاد بها بعض الناس بسبب ألوانها النابضة بالحياة وتكوينها الجريء، يرون أنها إحتجاج صامت يتم تقديمه بشكل سخيف ويعتقد آخرون أنها محاولة متعمدة للفن التجريدي وهي حركة لخداع عقل الجمهور”.
“أجد ذلك رائعًا حيث تم تصوير أفكار الفنان بشكل واضح من خلال تلك الألوان المتداخلة فقط فكر في الأمر… أليس هذا هو معنى المقاهي؟ صاخبة ومزدحمة مع أشخاص من خلفيات متنوعة يتصادمون ويختلطون مثل مزيج فوضوي…”.
“أنا على إستعداد لوصفها بأنها تحفة فنية رائدة في الفن التجريدي!”.
“هل تتحدث عن نوع الفن التجريدي الذي لم يتم الإعتراف به أو بيعه من قبل؟”.
‘مقهى… أليست هذه هي اللوحة التي رسمها مولين بإستخدام أردافه؟ هل ينظر إليها شخص ما بإحترام كبير؟ هل يمكن أن يصبح العمل الأكثر شهرة وقيمة في حياته؟’ لم يستطع لوميان إلا أن يفكر ‘سكان ترير…’ عض شفتيه وتنهد داخليًا.
عند وصوله إلى طاولة الحانة إشترى كأسًا من الأفسنتين ب8 لعقات ثم رفع صوته “الجميع لدي سؤال إذا إستطاع أي شخص تقديم الإجابة فهذا الشراب على حسابي!” عندما إتجهت كل العيون في الحانة نحوه تحدث “أنا أبحث عن الكاتب المسرحي غابرييل أريده أن يكتب لي مخطوطة”.
في شارع القديس ميشيل يمكن لأي شخص يصادفه أحد في الطريق أن يكون مؤلفًا أو رسامًا ناهيك عن حانة معروفة بمناقشاتها الأدبية وإبداعها الفني، عقد غابرييل إجتماعات متكررة مع زملائه الكتاب وربما يستضيف تجمعات خاصة في شقته المستأجرة، بعد كل شيء شهد فيلم الباحث عن الضوء عروضًا ناجحة وحظي بشعبية كبيرة مما جلب له فوائد كبيرة.
“لم يحضر منذ بضعة أيام ويدعي أنه يحبس نفسه لإنهاء قصة” رد رجل في منتصف العمر بالقرب من طاولة الحانة على إستفسار لوميان بإبتسامة “من المحتمل أنه غارق في المخطوطات هل تبحث عن كتاب مسرحيين آخرين؟ هناك العديد من الشباب الموهوبين على قدم المساواة هنا”.
‘لم يظهر منذ بضعة أيام…’ عقد لوميان حواجبه للحظات قبل أن يرتاح “كيف سأعرف إذا لم أجرب؟ لقد أتيت بكل إخلاص”.
“حسنا” تمتم الرجل في منتصف العمر الذي يرتدي المعطف الرسمي الممزق “أتمنى ألا تصاب بخيبة أمل”.
قاد لوميان إلى 34 شارع القديس ميشيل وصعد الدرج إلى الطابق الخامس بالقرب من العلية.
شكل الجدران والسلالم الخارجية قديم بعض الشيء ولكن لا يزال يتم صيانتهم جيدًا ما جعلهم أنظف وأكثر إتساعًا بشكل ملحوظ مقارنة بنزل الديك الذهبي.
“هذا هو المكان الذي يقيم فيه غابرييل” قال الرجل الملتحي في منتصف العمر للوميان بينما ينقر على الباب الخشبي البني للغرفة 503.
طرق بصوت مكتوم ولكن لم يكن هناك إستجابة.
“ربما ذهب للخارج بحثًا عن الطعام أو ربما أنهى عمله وذهب لرؤية مدير المسرح الذي كلفه بذلك” إقترح الرجل في منتصف العمر بإبتسامة قسرية “هل ترغب في العودة إلى الحانة لتناول مشروب آخر؟… أنا كاتب ذو خبرة على الرغم من أنني لم أغامر أبدًا بكتابة المخطوطات إلا أن رواياتي تباع جيدًا في السوق السرية”.
“ماذا كتبت؟” سأل لوميان الذي ينظر إلى الباب البني المغلق بإحكام ولم تظهر عليه أي علامات للقلق.
تنهد الرجل في منتصف العمر وقال “لقد كتبت رواية الراهب يتبع الكلب وتكملة لها الكلب يتبع الراهب لكن لم يتم نشرها بإسمي، لسبب واحد سيؤدي ذلك إلى إعتقالي من قبل الجواسيس وثانيًا مديري لن يسمح بذلك”.
“تكملة؟” لم يقم لوميان بزيارة سوق الكتب تحت الأرض أو مكتبة محظورة لبعض الوقت فقد شملت زيارته الأخيرة شراء (سجلات الإمبراطور روزيل السرية).
عندما نظر إلى الرجل في منتصف العمر البائس إلى حد ما والدهني قليلاً تغير منظوره.
يمكن إعتباره أحد المبتدئين في عالم الكبار!.
“صدر الشهر الماضي” أجاب الرجل في منتصف العمر بلطف “صنعت هاتان الروايتين لمديري ثروة لكنني لم أحصل حتى على عُشر ذلك… لا ولا حتى على واحد من 100!”.
“مدير؟” إستفسر لوميان متذكرًا بأن الشاعر عضو رئيسي في كذبة أفريل قام ذات مرة بتأليف “سجلات الإمبراطور روزيل السرية”، رأى في ذلك فرصة للحصول على نظرة ثاقبة حول طريقة عمل هذه المهنة والإستعداد للتتبع المستقبلي.
“ليس لدينا حقوق التأليف فنحن مجرد أدوات كتابة لمديرنا الذي يدفع لنا راتبًا ثابتًا ولكن ضئيل مقابل مخطوطاتنا محددا الإتجاه والمتطلبات لكتابتنا قبل بيعها عبر قنواته الخاصة” تنهد الرجل في منتصف العمر مرة أخرى “في شارع القديس ميشيل هناك العديد من المؤلفين من الدرجة الثالثة مثلي الذين ليس لديهم حتى أسماء مستعارة نحن مثل عمال خط التجميع”.
“هل لي أن أعرف إسمك؟” سأل لوميان بإحترام.
“راب” أجاب الرجل في منتصف العمر بعينان مليئتان بالأمل محدقا في لوميان.
تعمق لوميان في عالم الأدب السري وإكتسب رؤية ثاقبة ثم قال في النهاية “إذا فشلت محاولتي للتوصل إلى إتفاق مع غابرييل فسأفكر في تقديم فرصة لك”.
ظلت فرحة راب واضحة عندما أجاب “طالما أن المدير لم يكلفني بأي مهام جديدة ستجدني هنا في حانة مؤلفوا الدرجة الثالثة كل يوم!”.
عند مشاهدة المؤلف السري وهو أحد المبتدئين مثل العديد من شباب إنتيس ينزل الدرج أخذ لوميان سلكًا من جيبه وفتح باب غرفة غابرييل، بالمقارنة مع غرفة الكاتب المسرحي في نزل الديك الذهبي هذه المساحة أكثر إتساعا حيث تضم حمامًا وغرفة نوم صغيرة، علاوة على ذلك هي بمثابة منطقة معيشة ودراسة وغرفة طعام ومطبخ أين تم ترتيب موقد الفحم للطهي بشكل أنيق في الزاوية، قام لوميان بمسح الغرفة بسرعة ولاحظ وجود كومة من الأوراق الملتبسة التي تشبه المخطوطات على المكتب بجوار النافذة.
أغلق الباب الخشبي خلفه وتوجه نحو المكتب ‘إنه خط يد غابرييل يبدو أن راب يقول الحقيقة هذا بالتأكيد مسكنه…’ فكر لوميان بينما يحمل كومة الأوراق وبدأ في الاطلاع عليها.
إنتقل إلى غرفة النوم ورأى زوجًا من الملابس الداخلية السوداء ملفوفة بشكل عرضي على السرير حيث أكد هذا المشهد شكوكه السابقة كون هذا هو المكان الصحيح، رأى زوجًا من السراويل التي إرتداها غابرييل كثيرًا في الماضي ومع ذلك الكاتب المسرحي نفسه غائب بشكل واضح، مستذكرًا تصريح راب بأن غابرييل لم تتم رؤيته منذ عدة أيام تصاعد حذر لوميان حيث قام بفحص كل عنصر في الغرفة بدقة مثل الصياد الذي يتتبع تحركات فريسته، بعد بضع دقائق إلتقط لوميان كوبًا خزفيًا أبيض اللون بمقبض واحد من المكتب، لاحظ أن حوالي ثلثه لا يزال يحتوي على ماء بارد كما رأى غبارا يطفو على السطح وهو دقيق جدًا بحيث لا يمكن للعين العادية رؤيته بوضوح.
‘يوم واحد على الأقل…’ إنقبض قلب لوميان من القلق ‘ماذا حدث لغابرييل؟ هل من الممكن أن شهرته لفت إنتباه جواسيس الحكومة الباحثين عن “محادثة”؟ أو ربما أصبح عن غير قصد هدفًا للخاطفين الباحثين عن المال؟’.
وضع لوميان الكوب الخزفي بجانب المخطوطة وقام بتمشيط الغرفة بدقة بحثًا عن أي أدلة أو علامات مثيرة للإهتمام لكته لم يسفر عن شيء ملحوظ.
بالعودة إلى المكتب إلتقط كومة المخطوطات حريصًا على التعمق في عمل غابرييل قبل غيابه غير المبرر.
يحكي السيناريو قصة مؤلف مكافح إلتقى بإمرأة أُجبرت على الإنضمام إلى منظمة إجرامية ووجدوا معًا العزاء في اليأس والألم والعذاب وقسوة الحياة اليومية المشتركة، قدموا لبعضهم البعض التشجيع والدفء مما أدى في النهاية إلى إعتراف رئيس تحرير الصحيفة بالمؤلف وحصوله على دخل ثابت، نمت سمعته بشكل مطرد بينما إختارت المرأة التي لا تزال محاصرة في ظروفها أن تختفي حيث إنتهت القصة بمقطع عن إختفاء الحبيبة وتأملات المؤلف الإستبطانية:
“إنها هنا… وصلت حبيبتي في الليل… لقد غادرت… غادرت حبيبتي نحو الفندق البعيد…”.
أدى ذكر كلمة “الفندق” إلى إرتعاش جبين لوميان على الرغم من أنها كلمة عادية في النص إلا أنها برزت بالنسبة له بسبب تأملاته اليومية مما أثار الروابط في ذهنه، تحولت نظرته فجأة من المخطوطة إلى المكتب وفي مرحلة ما عاد كوب الخزف الأبيض ذو المقبض الواحد والذي نقله بعيدا عن المخطوطة بطريقة ما إلى مكانه الأصلي!، ضاقت عيون لوميان وتوترت العضلات تحت ملابسه فبصفته صيادًا لديه ذاكرة ثابتة لأي تغييرات قام بها في محيطه – ذلك جزء أساسي منه!.
‘مخلوق يصعب إكتشافه بالعين المجردة ولا يمكن التأكد منه إلا من خلال آثار معينة’ تذكر لوميان بصمت المعلومات التي نقلتها جينا من السلطات وفجأة مد يده إلى جيبه مخرجا زوجًا من النظارات.
نظارات بنية ذات إطار ذهبي… نظارات المتطفلين الغامضة!.
–+–
تم الدعم من طرف: Guts