111 - الرسول
ممسكا بمصباح الكربيد، تسلق لوميان الدرجات الحجرية.
سرعان ما ظهر الضوء في الأمام، مصحوبًا بدوامة من الضوضاء. خارجا من تحت الأرض الصامت، شعر كما لو أن العالم بأسره قد عاد للحياة.
قام لوميان بتسريع وتيرته، لافا الصمام الموجود على مصباح الكربيد بيده اليمنى، ومنع قطرات الماء من التساقط في كومة الكربيد الموجودة بالأسفل. مع احتراق غاز الأسيتيلين كليا، تلاشت النيران في الفم المعدني تدريجياً.
عندها فقط، ألقى نظرة خاطفة على المشهد في الخارج.
بدت المباني الشاهقة والمنخفضة وكأنها قد تجمدت في لحظة الانهيار، إما مائلة أو على وشك الانهيار، ولكنها واقفة بعناد.
إرتدى المشاة ملابس قديمة أو ممزقة، الجدال والشتائم تملئ الأجواء، الضوضاء لا تهدأ أبدًا.
عند مخرج تحت الأرض، اكتشف لوميان مبنى من خمسة طوابق يدعى نزل الديك الذهبي.
بدا الطابقين العلويين من المبنى البني كإضافات لاحقة، معاكسة لجدران، أقواس، أنماط ونوافذ عصر روزيل الكبيرة للطوابق السفلية. بدا بسيطًا جدًا لدرجة أنه يمكن أنه نُقل من كوردو.
حاملا حقيبته وفانوس الكربيد خاصته، تجاوز لوميان أطفال يبحثون عن قشور البرتقال وبالغين متشاجرين حتى وصل إلى مدخل نزل الديك الذهبي.
نظر إلى أرضية الفندق، مليئة بالبلغم الأصفر، الورق الممزق، الكاتشب المسكوب وبقع الكحول. في بعض الأحيان، تجمع حشد من بق الفراش على السقف والجدران.
لو أن يديه كانتا حرتين، لصفق لوميان للمشهد.
كانت حانة كوردو القديمة أنظف بكثير من هذا!
وجد طريقًا خاليًا من الأوساخ وتوجه إلى مكتب الاستقبال بخطى معتدلة.
جلست هناك امرأة ممتلئة الجسم، في منتصف العمر، فستانها الأبيض المائل للرمادي ملطخ بالزيت وشعرها البني مربوط في تسريحة كعكة بسيطة.
نظرت إلى لوميان بعيون زرقاء، غير منزعجة من الازدراء وعدم الرغبة على وجهه.
“هذا هو أفضل وأرخص نزل في شارع اللاسلطة، في منطقة السوق. لكن المالك بخيل ولا يستطيع تحمل استئجار سيدات تنظيف. لا يجعل إلا بعض الموظفين المستقلين ينظفونه مرة في الأسبوع.”
“هل يبخل على راتبك أيضا؟” سأل لوميان متظاهرا بالسذاجة.
أدى ذلك إلى إثارة انفعال المرأة.
“هل تريد غرفة أم لا؟”
“نعم.” أوضح لوميان نيته بسرعة، وبدا خائفًا. “أود أن أعرف السعر.”
هدأت المرأة.
“ذلك يعتمد على الغرفة. الطابقين العلويين بـ3 فيرل ذهبي للأسبوع، والطابقين السفليين هما 5 فيرل ذهبي. إذا كان هذا كثير، يمكنك طرق الأبواب والسؤال عن من يريد مشاركة سريره أو تأجير مساحة أرض بـ1 إلى 1.5 فيرل ذهبي في الأسبوع”.
“أعطني غرفة في الطابقين السفليين.” اخبر لوميان نفسه أنه سيكون من الأسهل الهروب، سواء بالقفز من النافذة أو صعود الدرج.
مسحته المرأة ممتلئة الجسم.
“ادفع 15 فيرل ذهبي مقدمًا للشهر بالكامل، وهي لك.”
“لماذا الخصم؟” تظاهر لوميان بجهل ريفي جديد في المدينة.
شخرت المرأة.
“لا يملك الكثيرون أي خيار سوى الانتقال أو مغادرة ترير بعد أسبوع أو أسبوعين. هذا المكان جنة وجحيم في نفس الوقت.”
سحب لوميان ثلاث أوراق 5 فيرل ذهبي زرقاء باردة وسلمها.
كانت كل العملات في فئات 5 فيرل ذهبي، مظهرةً القسم العلوي لرئيس جمهورية إنتيس الأول، ليفانكس، جنبًا إلى جنب مع المزارعين والرعاة أمامه، وسلسلة جبال هورناكيس في الخلف.
عند استلام إيجار الشهر كامل، خف تعبير المرأة الممتلئة بشكل واضح. أنتجت مفتاحين نحاسيين مربوطين معًا وألقتهما إلى لوميان.
“الغرفة 207 في الطابق الثاني. يوجد مطعم صغير في أسفل السلالم وحانة في القبو. ستجد الكبريت في درج طاولة الغرفة للمساعدة في طرد حشرات السرير اللعينة تلك. اسمي فيلس. إذا إحتجت إلى أي شيء، فقط تعال إلي.”
“شكرا لك أيتها السيدة فيلس”. أخذ لوميان المفاتيح، أمسك حقيبته ومصباح الكربيد، وتوجه أعلى الدرج إلى الطابق الثاني.
أثناء صعوده، لاحظ صحف وأوراق وردية رخيصة مُلصقة على الجدران، على الرغم من أن بعضها قد تقشر بالفعل، كاشفا الشقوق التي من المفترض أنها كانت تخبئها ووفرة من بق السرير.
احتوى الطابق الثاني على ثماني غرف ودورتي مياه. كانت كل غرفة ضيقة، مع سرير على اليمين. منضدة موضوعة بين حافة السرير والجدار تحت النافذة، وأمامها كرسي متهالك.
لم يوجد أي أثاث آخر، لكن صفوف بق الفراش زحفت عبر السقف.
بكونه قد نمى معتادا على نظافة أورور، وضع لوميان حقيبته ومصباح الكربيد، فتح الدرج، وأخرج بعض الكبريت. أشعله بعود ثقاب، وعندما ملأت الرائحة النفاذة الغرفة، هرب البق.
في غضون ثوانٍ، أمسك لوميان رائحة الكبريت من الغرفة المجاورة.
في نفس الوقت تقريبًا، عاد بعض بق الفراش باحثًا عن ملجأ.
لقد فهم الموقف بسرعة: لقد دخن البق إلى الغرفة المجاورة، واستخدم المستأجر الكبريت لمطاردتهم.
متسلي، انحنى لوميان وفتح حقيبته وأخرج قلم وورقة.
وسط رائحة الكبريت القوية، جلس على الطاولة الخشبية وبدأ بالكتابة.
“السيدة الساحر المحترمة،
“لقد وصلت إلى ترير كما إتفقنا. إنصحيني رجاءً بخطواتي التالية، المنظمة التي يجب علي الانضمام إليها، وكيفية الاتصال بهم…
“هل الطبيبان النفسيان متاحان قريبًا؟ متى يمكنني تلقي العلاج؟
“هل لديك أي دلائل جديدة عن غيوم بينيت، والسيدة بواليس…”
بعد كتابة الرسالة، أخرج لوميان شمعة برتقالية كان قد أخذها من غرفة أخته.
أشعلها بروحانيته، رائحة الحمضيات والخزامي تلف الهواء.
بشكل غريزي، أغمض عينيه، تعابيره تهدأ.
بعد الوقوف بهدوء لمدة دقيقة أو دقيقتين، استخدم لوميان خنجر الفضة الشعائري لتقديس الشمعة وخلق جدار من الروحانية. ثم قام بتقطير الزيت العطري على اللهب.
مع اكتمال الاستعدادات، وضع بطاقة الساحر على المذبح، وسيط لاستدعاء الرسول لتحديد التعويذة.
تراجع لوميان إلى الوراء، مراقبا النار البرتقالية الضبابية، وتمتم بهيرميس القديمة، “أنا!”
هبت ريح غير مرئية داخل الجدار الروحي، مما أدى إلى تعتيم الغرفة.
منتقلا إلى هيرميس، تابع، “أستدعي باسمي: الروح التي تتجول حول الذي لا أساس له، مخلوق عالم علوي ودود للبشر، رسول ينتمي فقط للساحر.”
مع عواء الريح، تحولت شعلة الشمعة إلى الأزرق الغامق، مما ألقى جو بارد شرير.
ركز لوميان على الشمعة، منتظرا رسول السيدة الساحر.
بعد بضع ثوانٍ من الصمت، طافت الرسالة الموجودة على المذبح في الهواء. نظر لوميان متفاجئًا إلى الأعلى ليجد ‘دمية’ بحجم ساعد الرجل تطفو فوق النافذة المنحوتة.
بشعر أشقر طويل، عيون زرقاء فاتحة، وبشرة بيضاء شاحبة، وفستان ذهبي الباهت رائع، حملت ‘الدمية’ ملامح واقعية وغريبة بشكل لافت للنظر.
في الثانية التالية، سقطت الرسالة على يد ‘الدمية’ الناعمة اللامعة التي إفتقرت إلى أي ملمس جلدي.
“هل أنت رسول السيدة الساحر؟” سأل لوميان.
أخفضت ‘الدمية’ رأسها ببطء، انعكس شكل لوميان في عينيها الزرقاء الفاتحة غير المركزة.
صوتها، أثيري وغاضب، أجاب، “اختر بيئة أنظف في المرة القادمة!”
مع ذلك، اختفت ‘الدمية’ مع الرسالة.
ذهل لوميان للحظة قبل أن يتذمر، “ألم تقل أورور أنه فقط المذبح يحتاج لأن يكون نظيف ومرتب؟”
وبينما نظر حوله، لاحظ العديد من جثث بق الفراش على الأرض.
أصبحت الغرفة الآن خالية من الحشرات.
‘هذا أفضل من الكبريت…’ قام لوميان بخدش ذقنه وأنهى طقس الاستدعاء.
نظف لوميان الغرفة من باب العادة قبل الجلوس بجانب حقيبته لاستعادة أدوات النظافة الخاصة به.
إستلقت دفاتر سحر أورور المظلمة في الأسفل دون أي إزعاج.
خلال رحلته إلى ترير، مسحها لوميان عرضيا بالفعل دون العثور على أي شيء مريب. لم تكن أورور فتاة أحبت تسجيل أفكارها الشخصية أو تفاصيلها اليومية. خُصصت دفاتر سحرها تمامًا لمعرفة الغوامض، مليئة بالتعاويذ والرموز ومبادئ اختيار المكونات.
على الأرجح بسبب ميل أورور للاحتفاظ بحسابات مفصلة، إمتلكت معظم التعاويذ معلومات حول متى وأين تم الحصول عليها، أو تكلفتها، أو الأغراض التي تم مبادلتها بها.
أدرك لوميان أن مجتمع أبحاث البابون مجعدة الشعر قد إمتلكت على الأرجح العديد من مجموعات مختلفة الإهتمامات. حضرت أورور بشكل متكرر تجمعات ‘الأكاديمية’، حيث تم تبادل العديد من التعاويذ بين الأعضاء. شاركت أيضًا في التبادلات مع مجموعات أخرى، واكتسبت أحيانًا معرفة وتعاويذ غامضة من أحداث مثل يوم كذبة أبريل.
لم يجد لوميان شيئًا خاطئًا في الدفاتر، وعزم على مواصلة تحقيقه بعد استشارة علماء النفس وتحديد موقع الأب والسيدة بواليس.
لقد عرف أن أخته لن تذكر دفاترها دون سبب في تلك اللحظة الحرجة. يجب أن توجد رسالة مهمة قد رغبت في نقلها.
محدقا في الدفاتر المظلمة، قرر لوميان دراسة المعرفة المسجلة من قبل أخته بترتيب عكسي، بدءًا من تلك الليلة.
على الرغم من أن استخدام التعاويذ في القتال كان شبه مستحيل بالنسبة للصياد، إلا أن فهمها يمكن أن يساعده في تحديد أي مشكلات تتعلق بالمعرفة الغامضة المقابلة أو اكتشاف التشوهات.
مع أمتعته معبأة، دمدمت معدة لوميان من الجوع.
وقف ونظر إلى النافذة. سمح له ضوء الغسق الخافت برؤية انعكاس صورته في الزجاج بشكل غامض.
شعره، المصبوغ الآن باللون الأشقر والاكبر، بالكاد أخفى ملامحه. مرتديًا قميصًا أبيض وسترة سوداء وبدلة داكنة، جعله تعبيره البارد اللامبالي يبدو أكبر سناً. حتى غيوم بينيت سيجده مألوف قليلا فقط.
ربت لوميان وجهه، دفع ابتسامة قبل أن يفتح الباب ويخرج.