181 - الوصول
🌿 تنبيه وإهداء قبل القراءة 🌿
📿 اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
🕌 هذه الرواية للتسلية، فلا تجعلها تشغلك عن الصلاة
🕊️ اللهم انصر أهلنا في غزة، وفرّج كربهم، وداوِ جراحهم، وارفع عنهم الظلم
📖 “إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا” (سورة الشرح، الآية 6)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان تموز أقصر فصول العام وأرقَّها في الشمال
كانت أشعة الشمس الخافتة تنسكب برفق على البراري، تمرُّ على قمم الأشجار وحقول القمح، وكأن الريح الباردة قد استراحت فلم تترك سوى نسمات لطيفة تدور بخفة في الشعر
في مثل هذا العصر الهادئ تقدّم موكب ببطء على الطريق الرئيسي خارج مدينة المدّ الأحمر
في المقدمة كان الحرس الشرفي الموفَد من قصر الدوق إدموند، تتبعه دزينة من العربات
قالت الدوقة إلينا وهي تجلس في العربة الثانية، رافعةً طرف الستارة لتنظر إلى المشهد المتبدّل خارج النافذة: أهذا هو إقليم المدّ الأحمر
تنحدر إلينا من أسرة نبيلة قديمة في الشمال، وكانت تُعدّ واسعة الاطلاع منذ صغرها، فقد رافقت زوجها في جولات المقاطعة لسنين، وزارت مواضع مشهورة في الشمال والجنوب، لكن ما رأته الآن جعلها تتوقف قليلًا
كانت الشوارع نظيفة، لا قصاصات ورق على الحواف، ورصف الحجارة منسّق ولامع كأنه حديث الوضع
وعلى جانبي الطريق عمّالٌ ينقلون أكياس القمح بانضباط، وحركاتهم ماهرة منتظمة، ولا أثر للإرهاق على وجوههم
وفي الأبعد كان بضعة أطفال يركضون ويلعبون إلى جوار سياج منخفض، والشَّعر والضحكات يتطايران مع نسيم الصيف
اقترب مرافق أشيب الشعر من نافذة عربة إلينا وتمتم بإعجاب: سيدتي، جُلتُ المقاطعة طول عمري، ولم أرَ من قبلُ إقليم حدودٍ بهذا القدر من الاستقرار
همست إلينا لنفسها: أهذا حقًا الإقليم الرئيس الذي لم يُطوَّر إلا منذ عام وزيادة قليلًا
دفعت رئيسة الخادمات أوليفيا نظارتها للأعلى، وعلى شفتيها انحناءة إعجاب خفيفة: الأراضي الزراعية مُعتنى بها جيدًا، والطرق شديدة الانسياب
وتوقفت ثم قالت بنبرة جادة: والأهم أن وجوه القرويين وردية، وحتى إن لم يكن المكان ثريًا فهو بالتأكيد غير فقير
على الجانب الآخر كانت إميلي تصغي إلى الكلمات التي تُثني على إقليم المدّ الأحمر، وقد ارتسم على طرف شفتيها ما يشبه الاعتزاز الخفي يطفو برفق في القلب
ومع تقدّم الموكب بدأت بوابة المدينة تتبدّى في البعيد
اصطفّ فريقٌ من فرسان المدّ الأحمر على جانبي الطريق الرئيس، يرتدون عباءات سوداء منقوشة بالأحمر، كلٌّ منهم يقف بوقار وسيفه إلى جانبه
ركع الفارس القائد على ركبة وهتف عاليًا: الحاكم لويس كالفن يأمرنا أن نستقبل باحترام ابنة الدوق إدموند، السيّدة القادمة لتكون سيدة الدار في المستقبل، صاحبة السمو إميلي
استقبلهم كبير خدَمٍ مُسنٌّ أنيق للغاية، بملابس لا غبار عليها وخطوات راسخة
قال: أهلًا بسموّك، وأهلًا بكِ سيدتي، إن الحاكم يُجري اللمسات الأخيرة للزفاف، وسأتولى ترتيب راحتكما أولًا
لم يحضر لويس بنفسه لأن تقاليد الزواج في الإمبراطورية، ولا سيما بين النبلاء، تقتضي ألا يلتقي العروسان قبل الزفاف
سارت العربة إذن نحو الشارع الرئيس في مدينة المدّ الأحمر
كانت المدينة أزحم مما توقّعوا
غير أنها لم تكن فوضى صاخبة، بل حركة منتظمة تكاد تكون إيقاعية
تدلّت أشرطة حمراء وزرقاء متداخلة على جانبي الطريق، رمزًا للوحدة والاحتفال
ومع هبوب الريح كانت الأشرطة تتمايل كالأمواج، فتضفي إيقاعًا رقيقًا على الزفاف المرتقب
كان السوق يعجّ بعد الظهر، والأكشاك مصطفّة بانتظام، والسلع مصنّفة بوضوح
وكان بائع حلوى يرتدي مئزرًا كتّانيًا نظيفًا يملأ الجرار بثمارٍ مجففة محمّصة مطلية بالعسل
وعازف جوّال قريب يعزف على قيثارته وينشد لحنًا جديدًا لإنشودة زفاف، وقد جاء اللحن على نحوٍ مُلفت
وكان الأطفال يدندنون اللحن وهم يركضون، ينتزع أحدهم شريطًا ويربطه على رأسه كعصابة، والضحكات الرائقة تتردد في الجموع
وما إن همّت العربة بالانعطاف حتى رفعت إلينا الستارة برفق لتتأمل المشهد
لم يكن بعيدًا طابورٌ طويل أمام متجر حبوب
غير أن الغريب أن الواقفين لم تُبدُ عليهم العجلة، بل كانوا يتبادلون الحديث والضحك، ويتبرّع بضعة رجالٍ بثياب خشنة بتنظيم الدور
أثار ذلك فضولها، فأرسلت بعض الخدم ليستطلعوا الأمر
عادتها خادمة بعد قليل وهمست عند نافذة العربة: سيدتي، ذاك متجر حبوب يعمل كنقطة إغاثة أقامها إقليم المدّ الأحمر
من أراد العمل أمكنه أن يستبدله بالحبوب، وحتى المشردون هنا يستطيعون أن يشبعوا بطونهم
تمتمت إلينا كأنها تؤكد: يشبعون بطونهم
وأضاف فارسٌ مُسنٌّ مرافق بصوت خفيض: في مدينة حربة الصقيع، المشردون الخارجون عن الفرق العسكرية النظامية إما يسرقون وإما يثيرون المشاكل، أما هنا فالإقليم يُطعم الناس ويضبط بهم الجنود، وليس ثمة فوضى، هذا… هذا مذهل بحق
عند ذلك ارتسم على شفتي إميلي انبساط لا إرادي، وشعرت بمشاركة الفخر
ونظرت خلسة إلى أمها، فإذا بعيني إلينا قد لانت قليلًا، وفيهما شيء من الإقرار المليء بالتأمل
احمرت وجنتا إميلي على الفور، وطأطأت رأسها وهي تعض شفتيها برفق، وقد سرت في قلبها حلاوة دافئة
لم يصنع ما يهزّ العالم، ولم يُخضع الناس إذلالًا، ومع ذلك فإن أهل هذا المكان يرونه شمسهم بصدق، فقط لأنه استطاع أن يُشبعهم
سرعان ما وصلوا إلى قصرٍ ذي ثلاثة طوابق
كانت ورود أوائل الصيف متفتحة في أحواض الزهر عند البوابة، والعطر الغامر يملأ الهواء حتى خُيِّل أن ضوء الشمس نفسه مشوبٌ بحلاوة خفيفة
ومع توسّع إقليم المدّ الأحمر ونفوذ لويس المتنامي في الشمال لم يعد أسلوب المساكن الجماعية تحت الأرض هو نمط العيش الوحيد
فاليوم صارت المدينة إلى تخطيط صارم منضبط، وبُنيت تباعًا مساكن ومراكز استقبال للضيوف الوافدين، وكان هذا الفناء واحدًا منها
على شرفة الطابق الثاني من القصر كانت الريح تعبث بالستائر، وتحمل معها رائحة الورد وغناءً قادمًا من السوق البعيد
جلست زوجة الحاكم إلينا في سكون، وعيناها على الشوارع والأسطح المنسّقة في الأفق، وملامحها تفكر
مالت الشمس على خصلات فضية عند صدغيها، فلطّفت القسمات التي اعتادتها الوقار والرشاقة
تذكّرت كم كانت رافضة لهذا الزواج
فالشمال قاسٍ بارد، وإقليم المدّ الأحمر لم يمضِ على تأسيسه سوى عام وزيادة، وذلك الشاب المدعو لويس، وإن كان من عائلة كالفن، إحدى «العائلات الثمان الكبرى» الندية لآل إدموند، فهو في نهاية المطاف نبيل حدودي لا أساس له، فماذا يستطيع أن يمنح إميلي حقًا
لم تكن أمَّ إميلي البيولوجية، لكنها رعت الطفلة بنفسها منذ كانت في السادسة
لم تطق أن ترى تلك الفتاة الذكية الرقيقة تُزف بعيدًا إلى أرضٍ موحشة
كانت ترجو أن تبقى في العاصمة الإمبراطورية أو تتزوج في الجنوب الدافئ المزدهر، لتحيا حياة نُعَمٍ نبيلة حقًا، لا أن تُكابد البرد في الشمال وتُرافق شابًا في «فتح العالم»
لكن الآن بدا أنها كانت متشائمة أكثر مما ينبغي
فها هي ترى قرى نظيفة وحقولًا وافرة وسوقًا مزدحمًا منضبطًا، وزفافًا مُحكَم الإعداد، واحترامًا في عيون كل موظف استقبال
خَطَت أقدامٌ وئيدة
اقتربت إميلي بثوبٍ أزرق فاتح يحمل شعار أسرتها
لم تُقلق خشوع أمها، بل مشت إلى جانبها بهدوء وأمسكت ذراعها برفق
قالت هامسة: أمي
التفتت إلينا إلى الفتاة التي ربّتها، فطفا في عينيها خليطٌ من العواطف
ورفعت يدها ببطء، ووضعتها على يد إميلي
قالت بصوتٍ لينٍ ونبرةٍ أخفّ: كنتُ خائفة عليكِ من العناء، ونصحتُ أباكِ أن نزفّك إلى الجنوب، كي لا تتعبي مستقبلًا
وتوقفت لحظة، ونظرت إلى الأطفال يرقصون عند الشارع البعيد، ثم إلى الأسوار والحرس الواقف على الأبراج بثبات
وقالت همسًا: لكن انظري، هذه المدينة مشيّدة بنظامٍ أمتن من إقليم أبيك، والناس يبتسمون، كأنهم لا يخافون شيئًا، وأنا أيضًا أشعر بالاطمئنان من غير قصد
لم تقل إميلي شيئًا، لكنها شدّت على يد أمها أكثر، ولمع في عينيها بريق رقيق
تنهدت زوجة الحاكم تنهدًا خفيفًا وهي تبتسم: ربما الزواج هنا ليس ظلمًا لكِ
همهمت إميلي موافقة، وقد احمرّ وجهها قليلًا، وأسندت رأسها برفق إلى كتف أمها
في عيني أمها كانت قد أسلمت مصيرها
وهذا التسليم أمكن لأمها أخيرًا أن تُطلقه راضية
كان ضياء مدينة المدّ الأحمر لامعًا قليلًا
دخل بال كالفن ممتطيًا جواده، وعباءته ترفرف في الريح، غير أن نظرته بقيت حادّة كعادتها
لم يكن بال يحب الحشود ولا حفلات الزواج، وكان قد همّ أصلًا بالاعتذار
لكن والده كتب في رسالة ببرود: اذهب واظهر في زفاف أخيك
كان عدد الأسرة قليلًا في الشمال، فأرسله أبوه ليساند
وكان ساخطًا على هذا الزواج
فقد رأى إميلي من بعيد مرةً في مدينة حربة الصقيع
سارت يومها كزهرة حمراء في الثلج، تمرّ أمامه بهيبة زهرة جبلية عالية
وظنّ بال أنها ستُفتن بالنمط المثالي من النبلاء على شاكلته: صامت، صبور، يعتمد على نفسه
ولم يكن بارون حدودٍ يحالفه الحظ فيستجلب الرضا بسهولة
ومع ذلك اختارت لويس
كان الأمر كزهرةٍ طرية زُرعت في روث بقرة
تمتم بال بين أسنانه: ذلك الرجل عثر مصادفةً على قطعة أرض خصبة، وتعلّق بساق آنسة حربة الصقيع
كان بطبيعته غير مقتنع، بل أشدّ الإنكار
وفي الماضي، كي يُظهر روحه القائلة «أستطيع توسيع الأرض بنفسي»، رفض الأرض القريبة من المدّ الأحمر التي رتّبها له الحاكم
واختار بنفسه منحدر سهل الذئب جنوب نهر الضباب البارد، وقد أشارت المعلومات إلى ثراء معدني فيه وإمكان تجارة
لكن الواقع كان أقسى مما تخيل
فاستصلاح أرضٍ متجمّدة أصعب من صعود السماء، ولم يتحسن الحال إلا قليلًا بدعمٍ حديث من أخيه الثاني، بالكاد يقتات بما جمعه من طعام ومعنويات
ومع هذا أبى الاعتراف بالهزيمة
قال في نفسه: أيٌّ كان غيري لانهار منذ زمن، أما أنا فصمودي دليلٌ كافٍ
وكان يؤمن دائمًا بأنه متى وُفّرت له الموارد الكاملة والدعم الكافي فلن يكون بأدنى من ذلك «المحظيّ»
حتى وهو يصل إلى المدّ الأحمر وثيابه ملطخة بالطين، وعربته تهتزّ وقديمة
وقف خارج بوابة المدينة ورأى صفوف الأشرطة الحمراء والبيضاء والفرسان المنتظمين، فعاد يزمجر في داخله
أهذه كل الجلبة؟ هه، حين ينهض منحدر الذئب سيرون يومًا ما
لكن قبل ذلك عليه أن يؤدي مهمة «حفظ الوجه» هذه
وربما تمكن أيضًا من رؤية إميلي من جديد
فقط ليثبت لنفسه: لقد اختارت خطأ
قاد بال جواده ببطء عبر شوارع مدينة المدّ الأحمر، وعيناه تزوغان من غير قصد
كانت نظرته في البدء ساخرة، تكاد تترقب نكتة تتكشف، لكن مع السير تجمدت ملامحه على مهل
كانت البوابة محروسة جيدًا، والجنود واقفون بالرماح، دروعهم لامعة ووجوههم جادة
وليسوا ديكورًا فارغًا كما في بيوت بعض النبلاء، بل رجالٌ خاضوا قتالًا حقًا
قال مستهينًا وهو يطوي شفتيه بعناد: هه، وليس وراء ذلك شيء
لكن سخريةً على طرف لسانه انقطعت حينما أرغمته مناظر المدينة في الداخل على الصمت
كانت الشوارع نظيفة حدًّا لا يشبه الشمال
أشرطة حمراء وزرقاء على واجهات الدكاكين، أطفال يركضون في الأزقة، ومنادٍ يصيح عاليًا: أسرعوا، زفاف حاكم المدّ الأحمر سيبدأ
وفي الأبعد كان بضعة فتيان أكبر سنًا يتحلقون حول أصغر منهم يروون حكايات
يتحدثون عن «شمس المدّ الأحمر» التي سحقت «محلّفي الثلج» في معركة حافة تشينغيو وأنقذت ثلاث قرى
تقدّم بال وهو يقود جواده، حاجباه معقودان قليلًا
رأى عامةً بقمصانٍ خشنة يعاونون في إصلاح الطريق عند الزاوية، ومسؤولين يرسمون المسارات في الجوار، ولم يسمع تقريبًا زجرًا ولا طردًا
تعجّب مرافقه إلى جانبه وقال بلا تكلّف: هذا الانضباط نادر
أطلق بال ضحكة ساخرة يخفي بها شيئًا: مجرد استعراضٍ بارع
لكنه نفسه لاحظ أن كلماته جوفاء بعض الشيء
وكان صفُّ فرسان المدّ الأحمر على السور يزيد قلقه، فلم يبدوا كجنودٍ خصوصيين مترهّلين لنبلاء عاديين
وعرف أن معظم هؤلاء الفرسان من عائلة كالفن، ثم نظر إلى فرسانه هو أيضًا من عائلة كالفن
فلماذا اختلفت المعنويات إلى هذا الحد
أراد أن يلتقط عيبًا ما، فلم يجد شيئًا البتة
قال في نفسه وقد سرى برد في قلبه: كيف أمكن هذا في عامٍ وزيادة فقط
وسأل نفسه وهو يرتجف قليلًا إنه ما كان ليقدر على هذا
وللمرة الأولى أدرك أن لويس كالفن ذا العشرين عامًا قد لا يكون فعلًا ذلك المحظوظ الذي تصوره
وبينما يجتاز الشارع الرئيس التقى بالمعارف في ساحةٍ مغطاة بسجادٍ أحمر، كان ويليس كالفن قد أنهى لتوّه تحية مسؤول الاستقبال في المدينة، ولما استدار التقت عيناه بعيني بال
توقّف الاثنان لحظة، فهما في النهاية شقيقان غير شقيقين، ليسا قريبين ولا إلى حد العداء
قال بال بابتسامة متحفظة: لم نلتقِ منذ زمن
أومأ ويليس: بالفعل
سارا نحو قاعة المأدبة الواحد خلف الآخر بخطوتين متفاوتتين قليلًا، وحديثهما يجري بتكلّف
سأل بال جسًّا للنبض: سمعت أن حراثة الربيع بدأت مبكرًا عندكم
قال ويليس بنبرة هادئة: نعم، ساعدني لويس كثيرًا، وقد خصّصنا 300 مو كمنطقة تجريبية لزراعة الشيلم الأسود المقاوم للبرد، هذا العام… ينبغي أن نحصد شيئًا من الطعام
كان صوته مطمئنًا، لا تباهٍ فيه ولا مواربة
رفع بال حاجبًا: هكذا إذن
وأردف ويليس: وقد أُرسلت النواعير وفرق الزراعة من هنا، وفي البداية كان القرويون غير معتادين، لكن المسؤول الزراعي الذي بعثه لويس علّمهم بتؤدة، فسار التقدم بسلاسة
ذكر «مساعدة لويس» وفي كلماته امتنان
أصغى بال، لكنه شعر بانقباضٍ غريب
كان قد سمع طبعًا أن ويليس بايع لويس بنشاط بعد تمركزه في مقاطعة قمة الثلج، بل خطّط لإقطاعه وفق نظام المدّ الأحمر
كان يظنه أول الأمر اضطرارَ من «يعيش على المدد»، لكنه لم يتوقع أن يتحدث الرجل بثباتٍ كهذا في هذه اللحظة
لم يكن كلامه تباهيًا، لكنه كان أمضى من التباهي
قال بال متصنّعًا هدوءًا: الأمور لدينا شبيهة أيضًا، ونظام المياه في منحدر الذئب مقبول، وقد جعلت الناس يُجلون الأرض أولًا، ورغم أن الوحوش السحرية مزعجة فقد طُهّر معظمها، وحراثة الربيع بدأت أيضًا
وتعمّد وهو يتحدث ألفاظًا فضفاضة مثل «أيضًا» و«لا بأس» و«مشابه» ليحجب الوضع الحقيقي
فلم يرد أن يقول إن التجمّد عميق والأرض لا تنقلب، وإن الناس يتفرقون سريعًا، وأنه ما يزال يعتمد على فرسانٍ يحرسون ليلًا كي لا تُسرق مؤن المعسكر
وأقلُّ ما يريد قوله أن البذور التي بالكاد زرعها الآن قد جاء بها أخوه الثاني من الجنوب
وحين أنهى الكلام نظر إلى ويليس بطرف عينه
فاكتفى ذاك بالإيماء الهادئ كعادته، لا أسئلة زائدة، ولا سخرية، بل بدا شديد الرسوخ
وهنا تسلّل إلى بال شعور غريب بالخيبة
فكلما ازداد ويليس تواضعًا وجديةً، ازداد إحساس بال بأنه يتظاهر بالتماسك، فلوى طرف فمه قائلًا: كلنا بخير، ولنكبر معًا ونقوى
قالها، لكنه فكّر في نفسه: أأعيشُ من عطاء أخي الأصغر، أليس ذلك مُخجلًا
بادل بال مجاملةً بأخرى، وتبادل الاثنان كلماتٍ عامة، وحافظا على لياقة ظاهرية، لكن حتى حين افترقا ظلّ طعمٌ مرير غريب في قلبه
كان أكبر الإخوة الثلاثة وأحسنهم مولدًا، ومنطق الأمور أن يكون أرسخهم الآن
لكن مقارنة بلويس الذي برز بسلسلة إنجازات عسكرية، صارت مدينة المدّ الأحمر تكاد تكون الإقليم الصاعد الجديد في الشمال
ومع أن ويليس بدأ متأخرًا فقد لحق بموجة دعم لويس القوية، وبدأ يزدهر كذلك، على الأقل شبعًا وكسوةً وإدارةً تتشكل جيدًا
أما بال
فإقليمه تجوسه الوحوش السحرية، ومعنويات الناس مبعثرة، وهو بالكاد يصمد بمددٍ من أخيه الثاني، وإلى اليوم لم يُحسن ترتيب الأرض
فإن كان ما قاله ويليس صحيحًا، فأسوأ من بينهم هو نفسه
وكلما ازداد التفكير ازداد غيظه، وهو يتبع حرس المدّ الأحمر عائدًا إلى دار الضيافة
كانت الشوارع نظيفة، والجنود منضبطين، وحتى الخدم الصغار مؤدبين، كأن المكان ليس إقليمًا نبيلًا ناشئًا، بل أسرةً قديمة حكمت الشمال سنين طويلة
فهبط مزاجه درجاتٍ أخرى
عاد إلى دار الضيافة فخلع عباءته وقعد بثقل، وفي عينيه عتمة، ورفع قدحًا فضيًا كأنه ليشربه دفعة واحدة، لكنه لم يرتشف إلا رشفةً ضحلة وأجبر نفسه على قول جملة
همهم: لقد حالفه الحظ فحسب
صبّ الخادم النبيذ باحترام وهمس يُذكّره: سيدي، هذه الزيارة بادرةُ مودةٍ أوصى بها الدوق بنفسه
ليست مسابقةَ تفوّقٍ أو نزالَ غلبة
لم يُجب بال على الفور
وكان بالطبع يعلم أن مجيئه إلى المدّ الأحمر هذه المرة لإظهار موقف الأسرة
ولتجعله الأسرة يُقِرّ بأن لويس لم يعد هامشيًا، بل نواةً جديدة حقيقية للشمال
لم يتوقع فحسب أن تكون الحقيقة أبهى مما تخيّل
ظنّ أنه حتى لو حاز لويس إنجازاتٍ عسكرية فهي محضُ توفيقٍ أعمى
وأن ويليس إنما يتعلّق بساق لويس، وليس ذلك مهارةً حقيقية
لكن ما رآه وسمعه اليوم
ومض في ذهنه ذلك الصفُّ العسكري المنظّم، والسوق المستقرّ، و«حاكم المدّ الأحمر» المبجّل في عيون العامة، ونبرة ويليس الهادئة الواثقة، فقبض على أسنانه وشرب ما في قدحه من النبيذ الأحمر
وتمتم بصوت منخفض: دعيه يزهو قليلًا، أمَّا أن يظن أنه سيجلس بثبات في الشمال ببضع انتصارات، فذاك سذاجةٌ مبالغ فيها
ومع ذلك فقد كان يسمع بنفسه ما في كلماته من قلّة يقين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انتهى الفصل
⚠️ تذكير مهم: هذه الرواية خيالية للتسلية فقط، فلا تجعل أحداثها أو مصطلحاتها تؤثر على عقيدتك أو إيمانك 🙏.
أنا بريء من محتوى القصة وما فيها من خيال، وقد بذلت جهدي لتغيير كل المصطلحات المخالفة ✨، فاعذرني إن بقيت كلمة لم أنتبه إليها 🌸.
🤲 المرجو الدعاء لي، والدعاء بالرحمة لوالدي 💐، وبالشفاء العاجل لوالدتي 💖، فهذا سيكون جزائي على الساعات التي قضيتها في ترجمة هذا الفصل وتنقيته من المخالفات الإسلامية 🌙.
📢 ندعو قرّاءنا الكرام القادرين إلى دعمنا ودعم فريق العمل من أجل الاستمرار في ترجمة الروايات بأفضل جودة ممكنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ