68 - وال، وال، وال (2)
الفصل 68: وال، وال، وال (2)
وُلِد والفريد نصفَ إنسانٍ ونصفَ مستذئب.
كان من الصعب أصلًا أن يُرزق المستذئب والإنسان بطفل، وحتى لو حدثت معجزة وُلد فيها طفل، فإن قوّته الجسدية تكون أضعف بكثير من طفلٍ وُلد بين مستذئبين.
ولم يكن هذا العيب الوحيد. فالطفل المولود بهذه الهيئة لا يملك القدرة على الإنجاب، مثل البغل المولود من فرسٍ وحمارٍ لا يمكنه التكاثر.
لهذا السبب، كان يُخشى أن يُؤدي تكاثر مثل هذه الأنصاف إلى انقراض المستذئبين الذين هم قلة أصلًا. لذا كان الاضطهاد الأكبر الذي يواجهه أولاد كهؤلاء هو حرمانهم من الاعتراف والقبول.
وبالطبع، لم ينظر المستذئبون بعين الرضا إلى زواج عائلة كافيسي، وكانوا يعاملون ابنهم والافريد كـهجين، يُطارد ويُهان بلا توقف.
كانت حياة العائلة في قرية المستذئبين قاسية، لكن الزوجين لم يتمكنا من الرحيل.
فبسبب مظهر والفريد المغطّى بالفراء، لم يكن ممكنًا العيش بين البشر.
زاد الأمر سوءًا بعد موت والده في حادث، حيث اشتدّت إهانات القرويين وتنمّر الأطفال.
فانتقلت والدته به إلى أطراف القرية، لكن حتى مع ذلك لم يكن ممكنًا العيش وحدهما، لأن البشر والمستذئبين كليهما يملكون غريزة العيش ضمن جماعة.
رغم علمه بأن الجميع يكرهونه، كان والفريد يتوق إلى تكوين أصدقاء.
وهذا الطمع الصغير كان سبب هذه الكارثة.
***
“ارفعوه أعلى قليلًا! شدّوا!”
“هوب!”
ربط الأولاد الحبل حول جسد وال، وعلّقوه على غصن شجرة عالية، ثم راحوا يشدّون الحبل بقوة.
راح وال يصرخ باكيًا وهو يتوسّل أن ينزلوه. لكنهم تسلّقوا الشجرة وعلّقوه أعلى فأعلى، ثم قفزوا فرحين وضحكوا.
لأنه نصف دم، لم يكن قادرًا حتى بعد التحوّل إلى مستذئب أن يقطع الحبل.
جسده أصغر، وأنيابه ومخالبه أضعف بكثير من باقي الأطفال.
وكأنه قطة ضائعة وسط قطيع من النمور.
“أنزلوني! أنزلوني!”
“واو، هذا الحقير حين يخاف يتكلم بوضوح!”
“علينا أن نعلّقه كثيرًا، حتى يتخلص من التأتأة!”
“اصرخ أعلى! هل تظن أن صراخك سيجلب الغاوورد؟”
بمجرد أن سمع أن الوحوش قد تأتي على صرخاته، أطبق فمه بقوة.
لكن جسده لم يطاوعه، فبدأ يصدر فواقًا متقطعًا.
“فواق، فواق، فواق…”
“هاهاها! انظروا لهذا الأحمق!”
“لماذا يبدو مضحكًا هكذا؟!”
ضحكوا طويلًا، ثم تركوه معلّقًا على الشجرة وغادروا عائدين إلى القرية.
توسّل وال أن يُنزلوه، لكن لم يلتفت إليه أحد. كانوا يعلمون أنّ قتل هجين لن يجلب لهم أي عقاب.
بعد أن ابتعدوا، لم يجرؤ وال على طلب النجدة.
نظر إلى الأسفل وقضم شفتيه.
إن صرخ، فقد تجذب صرخاته الوحوش، وسيكون ذلك أسوأ.
تدفقت مشاعر الحزن فجأة، فانهمرت دموعه.
لم يدرِ كم بقي معلّقًا. حتى فقد الإحساس بجسده من شدّة الألم والتنميل، حين سمع صوتًا بعيدًا يناديه باسمه.
أدار رأسه بصعوبة، ففتح عينيه على اتساعهما.
‘أمي!’
كانت أمه تهيم في الغابة مرتجفة، بيدها شعلة وفي الأخرى منجل.
‘لماذا أتيتِ إلى هنا يا أمي؟ هذا المكان خطير! ارجعي للبيت حالًا!’
لم يكن المنجل يصلح حتى لقطع الأعشاب، فكيف ستواجه به وحشًا أو عدوًا؟
أخذ وال يحرّك رأسه بشدّة ليتأكد أن لا وحوش قريبة منها.
رغم أنه معلق على الشجرة، إلا أن قلقه على أمه الإنسانة كان أكبر من قلقه على نفسه.
‘الحمد لله، لا وحوش حولها…’
فتح فمه ليناديها. لكن فجأة، أُضيء الأفق من جهة القرية بضوءٍ أحمر ساطع.
كان الوقت لا يزال بعيدًا عن الفجر، فكان المشهد غريبًا.
“أ… أمي! ح، حريق!”
وصلت رائحة الدخان والرماد حتى المكان الذي عُلّق فيه.
أمه التي كانت تبحث عنه توقفت فجأة وهي تشمّ الرائحة.
“أوووووووو–!”
دوّى عواء غاضب للمستذئبين وسط الغابة الممتلئة برائحة النار.
تلاها نباح كلاب الصيد، وانفجارات نارية، وأصوات صراخ الرجال.
“أحكموا الطوق جيدًا!”
“فتشوا جيدًا حتى لا يفرّ أحد!”
كان جيش من البشر قد هجم على القرية، يذبحون المستذئبين بلا رحمة.
‘الإقطاعي هاجم مجددًا!’
لطالما طمع في غابة الذئب الرمادي، بسبب مناجم المعادن الثمينة فيها.
كان رجال القرية يصدّون حملات مرتزقته بين حين وآخر. لكن يبدو أن هذه المرة لم يرسل المرتزقة فقط، بل جيشًا كاملًا.
فقد كان بريق سيوف الهاله يلمع في السماء فوق القرية.
“وال! يا بني، أين أنت؟!”
صرخت أمه وهي تهرع وسط الفوضى.
فكّر وال أن بقاءه صامتًا قد يُعرّضها للموت إن واصلت البحث عنه.
“أمي! لا تقتربي! اهربي وحدك يا أمي!”
“وال! أأنت وال؟ أين أنت؟!”
أخذت تُلوّح بالشعلة باحثة عنه. سمعت صوته، لكنها لم ترَه.
تدفقت في ذهنها المخاوف: هل وقع في حفرة؟ هل تعرض مجددًا لتنمّر الأطفال؟
“قلت لك لا تأتي! اذهبي يا أمي!”
‘أمي الحمقاء… أضعف من باقي الأمهات، لا تستطيع حتى التحوّل… لماذا لا تحترس أكثر؟’
رفعت رأسها فجأة، فاكتشفت أن صوته يأتي من فوق.
رأت ابنها معلّقًا في قمة شجرة البلوط.
“ما الذي تفعله هناك؟!”
أدركت فورًا أن أولاد القرية قيّدوه لإهانته.
غضبت، وشدّت على منجلها، ثم أسرعت راكضة نحوه.
لكن فجأة سمعت نباح كلاب، ووقع أقدام تقترب.
أيقنت أن ابنها سيموت إن أمسكوه.
“وال!”
ركضت بكل ما أوتيت من قوة حتى وقفت تحت الشجرة.
“اسمعني جيدًا! لا تصرخ ولا تتحرك! تظاهر أنك ميت، مفهوم؟!”
“ماذا… ماذا تفعلين؟”
لم تجبه. صعدت على صخرة وقطعت جزءًا من الحبل بالمنجل.
‘هكذا سينقطع من تلقاء نفسه لاحقًا.’
لم تقطع الحبل كله، لأنها إن أنزلته الآن سيصرّ على الفرار معها.
لكن وال، حتى لو كان هجينًا ضعيفًا، يبقى مستذئبًا.
وبإمكانه عند التحول الركض أسرع من كلاب الصيد.
‘أما أنا، فأبطأ… إن هربت معه سنُقتل معًا.’
رغم خوفها من الموت، كانت ستتحمّل كل شيء إن كان في ذلك نجاة ابنها.
رفعت رأسها نحو وال بعينين دامعتين:
“أنا إنسانة. حتى لو أمسكوا بي لن يقتلوني فورًا. لكنك… يجب أن تهرب شمالًا حالما تنزل من الشجرة، مفهوم؟ لا تقترب من القرية أبدًا!”
“أمي! إنهم سيذبحون كل من في الغابة! لن يفرّقوا بين بشر وذئاب!”
“مهما حصل… عش يا وال. هذه أمنية أمك الأخيرة…”
“لا تذهبي يا أمي! أمي!”
لم ترد عليه. استدارت وركضت بعيدًا، لتجذب الكلاب والجنود إلى الجهة الأخرى.
سرعان ما أحاطت بها الكلاب النابحة ورجال الإقطاعي.
“ما هذا؟ امرأة هنا؟”
“هل هي مستذئبة لم تتحوّل؟”
“أنا إنسانة!”
“حقًا؟”
شووووووت!
شقّ ضوء فضي الظلام.
سيف مرتزق أصاب كتفها اليسرى، فصرخت متألمة.
“همم، لم تتحوّل فعلًا… إذن أنتِ بشرية.”
ظهر آخر وهو يصفر بإعجاب، ثم قال ثالث:
“قالوا إن هناك امرأة بشرية أنجبت هجينًا… لابد أنها هذه.”
ابتسم المرتزقة ابتسامات باردة، ونظروا إليها باحتقار.
“أين خبّأتِ نَسلكِ اللقيط؟”
ارتجفت، ثم حاولت الفرار داخل الغابة.
“إلى أين؟!”
لوّح أحدهم بسوطه ليجلد ظهرها.
لكن قبل أن يسقط، انقضّ مستذئب ذو فراء رمادي داكن على المرتزق.
ارتبك الرجل وهو يلوّح بسوطه.
كان المرتزقة قد تجسسوا طويلًا على القرية قبل الهجوم.
وعرفوا أن فيها مستذئبًا هجينًا واحدًا، وأخذوا أوامر بقتل الجميع حتى آخر فرد.
“هاها، إذن هذا هو الهجين.”
ابتسم الرجلان – أحدهما بالسيف والآخر بالسوط – وكشفا عن أسنانهما الصفراء باستهزاء.
***
في مكان آخر
يبدأ يوم المسافر قبل بزوغ الفجر.
فهو يتناول طعامه باكرًا، ثم يسير، حتى يجد مكانًا يبيت فيه قبل حلول الليل.
استيقظ إرنولف وكازار قبل طلوع الشمس وبدآ بالتحرك.
“هل أنت متأكد أن هناك قرية بعد نصف يوم سيرًا في هذا الاتجاه؟”
ناول إرنولف صحنًا يحوي لحم غاوورد مشويًا مع بقايا حساء الحلزون إلى كازار.
“قلت لك نعم.”
“وكيف تعرف؟”
“رأيت دخانًا يتصاعد من هناك الليلة الماضية.”
“دخان؟ لا تقل لي إن مصيبة حدثت مجددًا؟”
“أي مصيبة…!”
لكن إرنولف قطّب:
“كل قرية نذهب إليها تحدث فيها كارثة.”
الأولى كانت تتعرض لغزو قبيلة كورنو.
الثانية وجدوا فيها طائفة سرّية تستخدم السحر المحرّم.
أما الثالثة – كليرون – فلا داعي لذكر ما جرى هناك.
“أنا فقط كنت المرشد. أما الفوضى، فأنت من تسببت بها.”
“أنا؟!”
“بلى. أين ضميرك؟”
احمرّ وجه إرنولف، لكنه أنكر.
“لقد التزمت الهدوء في كليرون!”
“صحيح، التزمت الهدوء… وأمسكت بوحش من رتبة عليا عاش 500 عام!”
“أنت من جلب البارون غلايمان، كازار!”
ضحك كازار، فقال إرنولف بيأس:
“حسنًا، هذه المرة لن أفتعل شيئًا أبدًا. سأبقى هادئًا حتى يستفزّني أحد.”
‘يجب أن أعيش بهدوء. لا مزيد من الأعداء. السلامة أولًا.’
منذ حادثة معبد الأفعى الحكيمة، كرر ذلك لنفسه مرات لا تُحصى.
لكن أينما ذهب، كانت المشاكل تندلع وحدها.
“كل ما سنفعله هو التأكد إن كان هناك ورشة خيميائي. ثم نغادر.”
“موافق.”
فكّر إرنولف قليلًا، ثم قال:
“لكننا سنشتري بعض البهارات أيضًا. لا يمكننا الاعتماد دائمًا على المكونات البرية. إن أردنا تنويع الطعام، يجب أن نشتري أساسيات.”
“كما تشاء.”
“وأنت ستدفع.”
“اتفقنا، أيها الشحاذ.”
كان كازار قد سرق بعض الذهب من البارون غلايمان قبل رحيلهم، إضافة إلى كيس نقود يُعتقد أنه يعود للأميرة، بعدما هاجمهم الغاوورد وحطم عربتهم.
وقد كشف إرنولف ذلك باستخدام سحر الكشف.
ثم سأل كازار:
“لماذا لم تُقدّم لنا كامل لحم الغاوورد أمس؟”
وأشار إلى حفرة عميقة مغطاة بالأوراق.
كان إرنولف قد طبخ قليلًا من اللحم فقط، فتساءل كازار عن السبب.
“هذا الطبخ يحتاج 18 ساعة على الأقل.”
“إذن سنتذوقه غدًا؟”
“بالضبط.”
كان إرنولف قد حفر حفرة عميقة، ووضع فحمًا من خشب البلوط، وأشعلها، ثم لفّ اللحم بالأعشاب والطين ووضعه فيها.
هذه طريقة طهي تقليدية في الجنوب، جيدة لجعل لحم الوحوش القاسي طريًا. لكنها تحتاج وقتًا طويلًا.
“بينما ينضج، سأصعد إلى الكهف هناك. ابقَ أنت هنا لتحرس اللحم.”
“ماذا يوجد في الكهف؟”
“لا شيء.”
ابتسم إرنولف ابتسامة غامضة.
فتضيّقت عينا كازار وهو يحدق به.
—————–
قالوا ما بيفتعلون المشاكل 😂😂😂