53 - الإخوة الودودون (1)
الفصل 53: الإخوة الودودون (1)
بسبب الحُمّى الشديدة وآثار سمّ الإبرة، ظلّ إرنولف طريح الفراش، فبقي كازار مع هارييت في قلعة بوزوني.
لكن كازار ندم مرارًا لأنه ترك هارييت بجوار إرنولف كحارسٍ مرافق.
فبفضل محاولات البارون بوزوني لكسب ودّ التوأم، أوكل مهمة رعاية إرنولف إلى أنيس، الأمر الذي أجبر كازار على مشاهدة مشهدٍ لا يطيقه باستمرار.
قالت أنيس وهي تغمس يدها في وعاء الماء لتبلّل المنشفة:
“أخشى أن تخشن يداك الرقيقتان بهذا العمل، دعي الأمر لي.”
فقفز هارييت على الفور، وجفّف يدها بكمّه قائلًا:
“هذا لا يليق بكِ.”
لكن أنيس احمرّ وجهها وأخذت المنشفة لتُعصرها بنفسها، فما كان من هارييت إلا أن اندفع ثانيةً:
“كيف تستطيعين أنتِ، بمعصميك النحيلين، أن تؤدي عملاً قاسيًا كهذا؟ هاتِ، دعي الأمر لي.”
قالت أنيس مترددة: “لا، أنا…”
فأجابها: “آه، الأعمال الشاقة دعِيها لي.”
وبينما كان يعصر المنشفة ويضعها على جبين إرنولف، حاولت أنيس أن ترفع وعاء الماء، لكن هارييت أسرع لينتزعها منها. فتقاطعَت أيديهما على الوعاء، ووجهاهما احمرّا مع ابتسامةٍ خجولة.
‘ما هذه السخافة؟’
كاد كازار أن يطرد الاثنين خارجًا، لكنه صبر. فهو يكره رؤية هارييت يتبسم هكذا، لكن لم يكن لديه خيار آخر، إذ لم يجد أحدًا غيره يثق به ليرافق إرنولف في غيابه.
قال كازار: “متى يصل المعالج؟ أليس من المفترض أن يصل اليوم؟”
فأجابه هارييت: “أمرت أن يُحضَر مباشرةً إلى هنا، لا تقلق.”
قال كازار بحدّة: “ماذا لو لم يرسله دوق نونيمان أصلًا؟”
قال هارييت: “لا ندري. لكن… لماذا تناديه بتلك الطريقة؟ صحيح أن الأمر لا يهم أمامي، لكن لو سمع أحدهم قد يسيء الفهم، فالأفضل أن تحتر…”
توقف هارييت وهو يلتفت إلى كازار الذي كان يرمقه بنظرةٍ مخيفة، فسكت وركض ليجلس بجوار أنيس.
في حياته السابقة، كان كازار قد فرّ إلى مملكة فينغريل هاربًا من كاسيون والبارون بوزوني.
وأكبر عائق واجهه حينها كان دوق نونيمان من مملكة هيلام. لذلك لم يكن يرى أي سبب ليذكره بلطف.
قال هارييت: “هل أذهب لأرى إن كان المعالج قد وصل؟”
فأجابه كازار: “بإمكانك سؤال رودريغو عندما تتحقق من حال كاسيون. أما أنت، فابقَ هنا تلهو مع الفتاة.”
ضحك هارييت: “هاها، ماذا؟ ألهو مع فتاة؟ متى فعلت ذلك؟”
قال كازار ساخرًا: “إذن، سأبقى أنا مع أنيس وأنت تذهب.”
أجاب هارييت فورًا: “سفَرة موفّقة يا كازار!”
كان تغيّر موقفه أسرع من البرق.
ومع أن إرنولف ظل نائمًا طوال الوقت، بدا وجود الثلاثة وكأنهما مجرد اثنين. استغل هارييت اللحظة الثمينة ليبقى مع أنيس أكثر، وشيّع كازار بابتسامة.
قال كازار وهو يخرج: “لا تتجول في غيابي، ابقَ في الغرفة.”
فردّ هارييت: “هناك عيون تراقب في كل مكان، إلى أين سأذهب؟ لا تقلق، سأبقى إلى جانب إرنولف دائمًا.”
ثم نظر بخجل إلى أنيس التي ابتسمت بدورها بخفة، مما جعل كازار يتأفف في سره: ‘يا لعنادهم.’ وخرج من الغرفة.
***
بينما كان هارييت يقضي وقتًا سعيدًا مع أنيس، فوجئ جيفروي بخبرٍ كالصاعقة.
قال مذهولًا: “ماذا تقول يا أبي؟! أنا أتزوج الآنسة أنيس؟”
أجاب والده: “كما سمعت. سنُقيم الزواج سريعًا بسبب قضية كاسيون. اعتبر الأمر محسومًا.”
صرخ جيفروي: “كيف تأمرني أن أسرق خطيبة أخي؟! هذا لن يحدث أبدًا، ألغِ هذا الزواج!”
كان جيفروي طيلة حياته مطيعًا لوالديه، لم يعصِ أمرًا واحدًا، فقد نشأ على الطيبة والشعور العميق بالمسؤولية كخليفة لعائلة غلايمان.
لكن هذه المرة، لم يستطع أن يطيع.
قال والده: “لو تزوجتَ من أنيس، فسيكون لطفلك الحق في امتلاك ضفتي سد كليرون، غربًا وشرقًا. وبهذا نُنهي العداء القديم مع بوزوني ونقوّي عائلتنا. أليس هذا مكسبًا عظيمًا؟”
أجاب جيفروي: “إذن زوّجوها لهاريت، ألا يكفي ذلك؟”
فرد الأب بصرامة: “أنيس هي الوريثة الوحيدة لعائلة بوزوني. إن لم يكن زواجها بخليفة غلايمان نفسه، فسيُلغى الأمر كله. أما هارييت، فسنجد له زواجًا أفضل.”
صرخ جيفروي: “أبي!”
لكن والده تابع: “إن عقد البارون بوزوني تحالفًا مع عائلة أخرى، فقد يجلب الكارثة على غلايمان. تذكّر، أنت وريث العائلة. واجبك أن تُقدّم العائلة على نفسك.”
كان الأب يدرك أن هذا القرار قد يزرع الشقزق بين ولديه، لكنه لم يرَ بديلًا. فقد كانت فرصة لضم الأرض بلا قتال.
“غدًا سأرسل الخدم للتفاوض على المهر. هذا الزواج لا عودة فيه.”
غادر، تاركًا جيفروي يصطدم برأسه بالحائط من شدّة القهر. كان يمقت قرار أبيه الذي مزّق الأخوة، لكنه لم يستطع إيجاد حلّ.
***
في تلك الأثناء، لم يكن هارييت يعلم بما يُحاك. خرج صباحًا ليقطف باقة من الزهور يهديها إلى أنيس.
‘أيمكن أن يكون هذا حلمًا؟ أن أراها كل يوم؟’
كان قلبه خفيفًا كريشة.
لكن عندما عاد، اعترضه كازار أمام باب الغرفة.
قال: “ما رأيك أن تزور غلايمان اليوم؟”
تعجّب هارييت: “لماذا الآن؟”
فأجاب: “ربما وصل المعالج الذي استدعاه والدك.”
رفض هارييت: “إن كان قد وصل، فسوف يُرسلونه مباشرةً إلى هنا.”
ثم حاول الدخول، لكن كازار سدّ الطريق. وقال بلهجة أخرى: “إذن ساعد الرجال في تقطيع جثة الباراغول. الجميع يشكون أنها المشكلة الأكبر الآن.”
فأدرك هارييت أن كازار يحاول منعه من الدخول.
تساءل بحدة: “من في الداخل؟ أنيس؟”
فردّ كازار ببرود: “قلت لك لا، إرنولف فقط.”
لكن ارتيابه زاد. ومع ذلك، اضطر إلى الانصراف. وقبل أن يغادر، مدّ كازار يده قائلًا: “أعطني الأزهار، سأوصلها أنا.”
حدّق هارييت مستغربًا: “أنت؟ أنت لا تفعل أمورًا كهذه.”
شعر أن الأمر مريبًا، فركض بنفسه إلى غرفة أنيس وهو يتمسك بالباقة.
تمتم كازار ساخطًا وهو يراه يبتعد: ‘أحمق، يذهب برجليه إلى قبره.’
***
في تلك اللحظة، كانت أنيس تبكي في غرفتها بعدما علمت بالخبر الصادم: زواجها قد خُطّط له، لا مع هارييت، بل مع جيفروي.
صرخت باكية: “كيف يفعلون بي هذا؟ كيف يُزوّجونني بأخيه؟!”
وصل صوت بكائها إلى الممر، والتقطه هارييت الذي تجمّد في مكانه، غير مصدقٍ ما سمع. سقطت باقته من يده وهو يركض عائدًا.
ناداه كازار من الأسفل: “يا هارييت! المعالج في الطريق، سأذهب لإحضاره. راقب تيري إلى أن أعود.”
لكن هارييت لم يسمع، بل أسرع إلى الاسطبل، خطف حصانًا، وانطلق هاربًا.
نظر كازار من النافذة وهو يتمتم بمرارة:
‘غبي. هل يظن البارون بوزوني سيُعطي ابنته الوحيدة لابن ثالث لا يملك شيئًا؟ كان يجب أن يعرف أن بعض الأشجار لا يمكن تسلقها.’
ثم خطرت له ذكرى قديمة: قبل ثلاثين عامًا، عندما كان في مثل عمر هارييت، تعرّض هو أيضًا للسخرية حين حاول الوصول إلى امرأة تفوق مقامه.
‘مرتزق تافه يريد أن يتزوج الأميرة؟ لقد جنّ تمامًا!’
‘هذا ما يحدث عندما ينسى الوضيع حدوده.’
همس كازار ساخطًا: “تبا… يبدو أنني تضايقت لأن وضعي قديمًا يشبه وضعه الآن.”
لقد أحبّ يومًا إيروني بيسارت فينغريل، الجميلة كالجنّية، وكاد يُضحّي بحياته من أجلها. لكنها أصبحت عدوته في النهاية.
فسمع صوتًا خلفه: “أي شجرة لا يمكنك تسلقها إذن؟”
التفت، فإذا بإرنولف قد استعاد بعض قواه وفتح عينيه.
أجابه كازار ببرود: “لم أكن أتكلم عن نفسي.”
ابتسم إرنولف بخفة: “إذن عن مَن كنت تتكلم؟”
فأخبره كازار بالحقيقة: أن أنيس قد خُطبت لا لهارييت، بل لجيفروي.
فقال إرنولف بهدوء: “زواجٌ كهذا سيُوحّد العائلتين بعد عداء طويل، وسيُحقق الاستقرار للمنطقة. اختيار منطقي من اللورد غلايمان.”
لكن كازار تمتم: “وهل قال أحد العكس؟”
ثم أضاف إرنولف بابتسامة غامضة: “يبدو أنك متضايق لأنك تشفق على هارييت.”
أنكر كازار بشدة: “أنا؟ ولماذا أشفق؟”
لكن إرنولف واثقًا ردّ: “أنت قد تسيء معاملة الجميع، لكنك مخلص لمن تعتبرهم من دائرتك. لقد أنقذته أكثر من مرة. لا تقل لي إنك لا تهتم به.”
أشاح كازار بوجهه قائلًا: “أنت تفهم الأمور خطأ. لم يكن سوى صدفة.”
ابتسم إرنولف: “حسنًا، كما تقول.”
نظر كازار إليه مطولًا بعينين ضيّقتين، يشعر أن أخاه لا يصدّق كلمة مما يقول.