43 - الانقسام والوحدة (3)
الفصل 43: الانقسام والوحدة (3)
غادرت قوات غلايمان القلعة على صهوة جيادها متجهة مباشرة نحو السد.
منذ المعركة على الشرفة، ظلّ إرنولف وكازار في حالة من البرود والجمود. كازار لم ينبس بكلمة، لكنه ظل يبعث من جسده هالة قاتلة خانقة، بينما إرنولف لم يجرؤ على قول شيء وهو يحاول مجاراته في الصمت.
أن يضطر لامتطاء الحصان خلف كازار، ملتصقاً بظهره مثل حشرة، كان بالنسبة لإرنولف شعوراً يشبه الجلوس فوق كرسي مليء بالأشواك.
‘بما أنه لم يطلب الانسحاب من الفرقة، فلا يبدو أنه غاضب إلى تلك الدرجة…’
لقد أوصى البقية بالتخلي عن كازار إذا تخلف عن الركب، لكن الحقيقة أن نية إرنولف لم تكن أبداً تركه. لم يكن يفكر مطلقاً بالسماح بسقوطه.
‘حتى لو انهار قلب المانا خاصتي، سأظل أحميك يا كازار. لا يهم من نواجه… لن أتخلى عنك أبداً. لذلك، أرجوك فقط لا تبتعد…’
ما كان يخشاه الآن لم يكن وحش باراغول نفسه. صحيح أن خصماً بهذا الحجم صعب، خصوصاً من دون وجود سيد هاله أو ساحر رفيع المستوى، لكنهم إن خططوا جيداً يمكنهم التغلب عليه.
المشكلة الحقيقية هي هذا الانقسام بينه وبين كازار. إرنولف كان يرجو من أعماقه أن لا يتصرف كازار بتهور.
كانا يركبان الحصان نفسه ويقصدان نفس الوجهة، لكن في قلب كل منهما نوايا مختلفة تماماً.
‘ولِم عليّ أن أخضع لرغبتك وحدك؟’
في لحظة غضب، فكر كازار أن يشارك في مطاردة باراغول فقط ليُفسد الأمور. لكن سرعان ما غير رأيه. التعاون مع قوات بوزوني وغلايمان يعني أن كاسيون سيكون حاضراً أيضاً.
ترك كاسيون وحده ليقطف المجد؟ مجرد التفكير في ذلك أشعل الغضب في صدره. أن يُمجَّد كاسيون على صيد الوحش بينما يقف هو مكتوف الأيدي؟ لكان من الأفضل أن يفقأ عينيه على أن يرى ذلك.
لهذا، لم يكن انضمامه إلى القتال تعبيراً عن مصالحة، بل مجرد دافع لحرمان كاسيون من المجد، ولانتزاع رأس باراغول بنفسه.
حتى الدودة إن دُعست تتحرك. فكيف بإنسان؟
لقد أعادل أخاه للحياة، اصطاد له الخنزير البري الهائج، وجلب له غزالاً يصعق بالبرق، وقطف له زهرة الملح، بل واقتلع ناب الـ “ريكس غيجانتيا” لأجله. كل ما أراده لبّاه… حتى صار يظن أنه يعتبره مجرد أداة.
سترى… هذه المرة سأتصرّف كما أشاء.’
في حياته السابقة، عاش كازار مغروراً لا يسمع لأحد. الآن، وقد قرر العودة إلى طبعه القديم، شعر صدره وكأنه انفتح.
ضحك باستهزاء، وعيناه تضيّقان بسخرية. عندها فقط تحدث إرنولف فجأة:
“كازار، تقدّم للأمام!”
“ماذا؟”
“قلت لك، إلى الأمام بسرعة!”
ألحّ إرنولف بعصبية، وصوته المرتجف كشف استعجاله. غصباً عنه، قبض كازار على اللجام وشد الحصان إلى الأمام.
‘اللعنة على هذا التزامن بيننا…’
برغم غيظه، لم يكن أمامه خيار.
‘لكن فقط هذه المرة. لن أسمح أن يتكرر هذا!’
ضغط بأسنانه وتجاوز الآخرين حتى صار في المقدمة. شعر إرنولف وهو خلفه يحرّك ساقيه ليثبت توازنه، بينما جمع ماناه في يده الأخرى.
قال كازار بضيق:
“أتمسك بي هكذا؟ إن سقطت فأنت هالك لا محالة!”
فرد إرنولف ببرود:
“هناك ما يجب أن أفعله.”
زمجر كازار في نفسه: ‘لماذا وُلدت ضعيفاً هكذا لتجعلني قلقاً دوماً؟’
كان في صغره يسمع الناس يقولون له: “لا بد أنك التهمت قوة أخيك في بطن أمك، لذا خرج ضعيفاً.” لم يكن يذكر شيئاً من ذلك، لكن الاتهام كان دوماً يؤلمه.
‘تبا… مقرف!’
إن لم يحصل على قوته قبل الولادة، فهو بعد الولادة يبدّدها في سبيل أخيه!
ومع ذلك، رغم غيظه، قبض بقوة على ذراع إرنولف ليمنعه من السقوط.
“هيّا!”
اندفعت الفرقة عبر منتصف السد. وبمجرد وصولهم للمقدمة، لمح كازار من خلال الدخان جيفروي يقاتل قرب باراغول.
‘ألا يستطيع ذلك الأحمق أن يبقى ساكناً حتى نصل؟!’
كل شيء كان يخرج عن السيطرة. كازار لم يكره فقط قوة باراغول، بل أيضاً حماقة عائلة غلايمان.
عندها صاح إرنولف:
“زيدوا السرعة! انتبهوا جميعاً!”
ثم أطلق تعويذة:
“تسرع!”
انطلقت دوائر سحرية بيضاء ضخمة ظهرت على هيئة أجنحة، غطت الفرقة بأكملها. في لحظة، صار الهواء حولهم أخف، وصارت الأجساد أسرع.
اندفعوا كالريح، حوافر الخيول تضرب الأرض بقوة.
قال إرنولف:
“قد ندخل في مدى الهجوم الصوتي. جهّزوا دروع الهاله الآن!”
امتثل الجميع وأقاموا دروعاً تحميهم وخيولهم.
وفعلاً، بدأ صدى الهجوم الصوتي الوحشي يهز الأجواء.
البارون غلايمان نفسه كان يتبعهم عن قرب، وعيناه على ابنه جيفروي الذي اقترب من مدخل السد. بدا عليه القلق الشديد.
قال إرنولف:
“سنلحق بهم قريباً، لا تقلقوا!”
لكن فجأة، ظهر وهج أزرق على قوقعة باراغول. عرف إرنولف على الفور أنه يستعد لإطلاق موجة صاعقة.
صرخ:
“هذا هجوم صاعق! عند إشارتي… أطلقوا الدروع معاً!”
تحركت الفرقة بانتظام، كل مجموعة إلى قائدها، وشكّلوا كتلتين متراصتين.
كان على كازار الانضمام لإحدى المجموعات، لكنه ظل في المقدمة يثبت تعويذة السرعة.
صرخ وهو يقطب حاجبيه:
“ألا يكون التيار أضعف على الأطراف؟ ربما لو خفّفنا السرعة…”
لكن إرنولف رفض:
“استمر في التقدم!”
زمجر كازار:
“أجل، حياتي رخيصة إذن؟”
“أخائف؟”
“ماذا قلت؟!”
“سألت، هل أنت خائف من ذاك الشيء؟”
“لماذا تستفزني الآن؟!”
استدار كازار غاضباً، ليجد إرنولف يحدق به بعينين واسعتين ثابتتين. احتقن وجهه من الغيظ.
صرخ:
“أنا لا أخاف من ذلك الحقير!”
ابتسم إرنولف بهدوء:
“تماماً كما توقعت.”
وقبل أن يزيد غضب كازار، دوّى صوت:
“إنه قادم! الدروع!”
اندفعت موجة صاعقة زرقاء، ففتح الاثنان دروعهما في اللحظة نفسها. اندمج الدرعان، فكوّنا حاجزاً صلباً اخترقته الموجة بلا أن تنال من الفرقة.
أما جيفروي ورجاله، الذين كانوا أعمق في مدى الهجوم، فقد قُذفوا بعيداً. صرخ البارون وأخوته:
“جيفروي!”
رأوا جسده يتطاير ويسقط في غابة صغيرة عند مدخل السد.
لم يضيع إرنولف لحظة، بل أعاد تعويذة السرعة:
“تسرع!”
فانطلقت الفرقة بأكملها نحو الغابة، حيث اختفى جيفروي.
خلفهم، كان باراغول يصرخ بصوت اهتزّت له الأرض، وأطرافه الضخمة تثير غباراً كثيفاً، فرِحاً بنجاح هجومه.
قال كازار وهو يركض وسط الغابة:
“يبدو مسروراً.”
رفع إرنولف صوته وسط ضجيج الحوافر:
“كازار!”
لم يجب كازار، لكنه تابع:
“أنا أثق بك.”
“… …”
“فلتثق بي أنت أيضاً.”
كازار لم يرد، لكنه تمتم في داخله:
‘كيف تريدني أن أثق؟ أثبت لي أولاً…’
***
في مكان آخر، بعد أن انسحب كاسيون ورجاله إلى القلعة وتركوا الحصون والطرق الخلفية، كان البارون بوزوني يرتجف من الغضب:
“قدّمت لك ابنتي، وتنازلت عن القيادة كما أردت، والآن تتركني وتفرّ؟! أي خيانة هذه؟!”
تجرأ أحد رجال كاسيون، إيفنر، وقال:
“معذرة، يا سيدي. لكن بهذه القوات، كيف لنا أن نوقف ذاك الوحش؟!”
صرخ البارون:
“أيها الوقح! أتريد الموت؟!”
لكن إيفنر تابع بحدة:
“لو أن القلعة لا تزال صامدة، فالفضل لقائدنا الذي ضحى بحياته! ينبغي أن تعترف بذلك!”
اشتعل غضب البارون، لكن كاسيون نفسه رفع يده وقال بصرامة:
“إيفنر، اعتذر فوراً!”
فانحنى الرجل معتذراً، لكن ما أغاظ البارون أن جنوده لا يطيعونه هو، بل كاسيون وحده.
في قلبه، ارتاب:
‘هل أنقذ رجاله عمداً وترك فرساني يموتون؟’
حينها، تسلّل الخوف لأول مرة إلى صدر البارون بوزوني.
‘هل جلبت كلباً حارساً… أم ذئباً سينقض عليّ؟’