39 - جحافل الوحوش (2)
الفصل 39: جحافل الوحوش (2)
كان هارييت في حيرة: هل ينقذ الطفلة، أم يهرع إلى الشيخ وابنه الملقى أرضًا؟
وفي النهاية، اتخذ قراره واندفع نحو الأب وابنه.
“اترك ابني! اتركه أيها الوحش!”
“أبي! اهرب بسرعة!”
كان الشيخ يقاتل بكل ما تبقى له من قوة هزيلة ليُنقذ ابنه، فيما الابن يصرخ طالبًا منه النجاة بينما وحش متوحش يغرس أنيابه في فخذه، وهو يضربه بقبضته يائسًا.
وفجأة، فتح وحش آخر فمه على مصراعيه وانقضّ نحو عنق الشيخ.
صرخ الابن في رعب وهو يرى المشهد:
“أبي!”
لكن في اللحظة الحاسمة ظهر هارييت.
أطلق شفرة هاله صغيرة وغير متقنة قطعت رأس الوحش الذي هاجم الشيخ، ثم ركل الوحش الآخر الذي كان يمسك بالابن فأسقطه أرضًا.
“هَا… هَا…!”
وطأ هارييت على جسد الوحش المطروح، وغرز سيفه في عنقه حتى قضى عليه. ثم التفت سريعًا نحو مكان الطفلة.
‘هل لا تزال حيّة؟’
كان قلبه يخفق بعنف وهو يخشى أن يرى منظرًا مروّعًا.
لكن ما وقعت عليه عيناه لم يكن كما توقع.
“ذلك الفتى…!”
كان كازار قد وصل دون أن يدري هارييت متى.
وبمجرد أن لوّح بسيفه، انطلقت شفرات الهاله كالعاصفة، فقطعت خمسة وحوش إلى نصفين دفعة واحدة. واستمرت الشفرات في الطيران حتى اصطدمت بشجرة ضخمة وسط القرية، فأسقطتها على مجموعة وحوش صغيرة.
دووووم!
سقطت الشجرة العملاقة فوق الوحوش وسحقتها.
وفي غضون لحظات، كان كازار قد قضى على كل الوحوش التي تحاصر الطفلة.
هارييت، الذي شهد قوة شفراته ونقاء أسلوبه في القتال، لم يتمالك نفسه من الذهول:
‘مستحيل… أهذا فعلًا فتى في الرابعة عشرة فقط؟ من هو معلمه؟ أين تعلّم هذه المهارة؟’
وبينما ما زال مشدوهًا، انطلقت شفرة هاله من كازار متجهة نحوه.
فششش!
مرّت بجانبه بسرعة خاطفة فأثارت الغبار، وأحس بقشعريرة باردة تسري في ذراعه ورقبته.
“آااه!”
صرخ الوحوش خلفه، وحين التفت هارييت رأى ثلاثة منهم وقد انقسموا نصفين كأصداف مفتوحة.
“لماذا تقف كالأبله؟”
“أه!”
ظهر كازار أمامه فجأة، حتى كاد وجهه يلتصق بوجه هارييت. ارتبك الأخير وتراجع بجسده إلى الخلف، لكن كازار أمسكه من ياقته وضرب جبهته بجبهته في نطحة قوية.
“ماذا تفعل بحق السماء؟!”
صرخ هارييت وهو يمسك جبهته المتورمة بيده.
“في ساحة القتال، أمثالك هم أول من يموت.”
“ماذا قلت؟!”
“الأحمق الذي يغلي رأسه أولًا… هو أول من يهلك.”
ثم رفعه كأنه دمية من قش وألقاه جانبًا حيث تجمّع بعض الناجين والطفلة التي أنقذها.
“أنا سأفتح الطريق. أنت تولَّ الحماية من الخلف.”
“هنا أراضي غلايمان! من تظن نفسك لتأمرني؟!”
“إن أردت أن تموت ميتة تافهة فمت وحدك. لا تجرّ الآخرين معك.”
تقدّم كازار بخطوات واثقة، فتردّد الناس قليلًا، ثم تبعوه بحذر.
أما هارييت، فظل يلمس جبهته بألم قبل أن يقع بصره على الجنود الجرحى والوجوه المذعورة للمدنيين. عندها فقط أدرك الموقف جيدًا.
“هممم…”
تنفّس بعمق، ثم لوّح بسيفه الملطخ بالدماء.
وبينما أطلق شفرات هاله لحماية المؤخرة وصد الوحوش عن الجرحى، ارتسمت على وجه كازار ابتسامة خفيفة.
‘على الأقل… ليس عديم الفائدة.’
ثم صرخ وهو يشقّ طريقه بين الوحوش:
“هااا!”
تطايرت شفرات الهاله البيضاء، تاركة وراءها خطوطًا دامية طويلة.
“هيا!”
وبينما يقطع كل ما يقف في طريقه، قاد كازار الناجين باتجاه قلعة غلايمان، فيما تبعه هارييت من الخلف منقذًا المزيد من القرويين الذين صادفهم.
***
في الخارج…
حين اندفعت جحافل الوحوش، هرع سكان القرى نحو قلعة غلايمان فوق التل.
وكان ألبيرت، الابن الثاني للبارون، يتصدّى مع الفرسان، مستخدمًا الدروع لفتح ممر آمن للمدنيين.
لكن الوضع لم يستمر طويلًا.
فقد غطّت الوحوش الدروع كالسيل الجارف وبدأت تهدد الممر.
من فوق الأسوار الخارجية، أطلقت الحامية بقيادة زوجة البارون وابلًا من السهام، لكن الأعداد كانت هائلة.
وكان الممر الذي صنعه ألبيرت هو الطريق الوحيد للنجاة، ورغم أنه قد ينهار في أي لحظة، لم يكن هناك خيار آخر.
“أسرعوا! ستُغلق البوابة قريبًا! لا تتوقفوا!”
صرخ ألبيرت وهو يقاتل الوحوش التي تخترق الصفوف.
“أين هارييت؟ ألم يعد بعد؟!”
كانت أبواق التحذير تدوي لإغلاق البوابة، لكن أخاه الأصغر لم يظهر بعد.
“آااه!”
سقط أحد جنود الدروع تحت ضغط الوحوش، ففتح سقوطه ثغرة. وما إن انكشفت حتى اندفعت الوحوش عبرها كالسيل الجارف، وبدأ الممر كله ينهار.
“أميلس! معي!”
“نعم!”
اندفع معه الفارس أميلس، رفيقه منذ الصغر، نحو الثغرة.
“سيدي ألبيرت! تلك الجهة أيضًا تنهار!”
صاح أميلس وهو يغرس سيفه في عنق وحش آخر، وأشار إلى مكان آخر تهتز فيه الدروع. وبدلاً من أن يحافظ اللاجئون على الصف، دبّ فيهم الذعر وتدافعوا، فاختنق الممر أكثر.
“اذهب أنت!”
“لكن… وحدك؟”
“إن انهارت تلك الجهة، فالكارثة أكبر! أسرع!”
وبينما كانت السهام تنهمر من الأسوار، فإنها لم تكن كافية أمام زحف الوحوش.
أطاع أميلس أمره فورًا وغادر، تاركًا ألبيرت يقاتل وحده.
‘للعنة…!’
رغم أنه قاتل بجنون، إلا أن الوحوش التي اندفعت كانت أكثر بكثير من تلك التي قضى عليها. ومع كل لحظة، كانت الفجوة تتسع.
من أعلى البرج، تابعت زوجة البارون المشهد بعينين مذعورتين.
“بهذا الشكل… ابني في خطر!”
رأت ثلاثة وحوش تنقضّ عليه دفعة واحدة، فشحب وجهها.
“أرسلوا تعزيزات فورًا!”
“لا قوات إضافية يا سيدتي!”
لم يبقَ في القلعة سوى الحد الأدنى من الحامية، بينما كل البقية خرجوا لإنقاذ السكان. وحين أمسكت بسيفها لتنزل بنفسها، أسرع الجميع لمنعها.
‘هل علي أن أرى ابني يُقتل أمامي عاجزة؟!’
في تلك اللحظة، صاح أحد الخدم وهو يشير أسفل التل:
“سيدتي! انظري هناك!”
وفجأة اضطربت الوحوش، وبدأت تصرخ بتململ وتفرّ هنا وهناك.
“إرنولف…”
تمتمت زوجة البارون والذهول في عينيها.
“ماذا قلتِ؟”
“إنه إرنولف! لقد جاء!”
ظهر الصبي ذو الشعر الأسود وهو يندفع صعودًا نحو التل. ومع كل خطوة، ارتفعت أمام الدروع جدران من اللهب، فأحرقت الوحوش الملتصقة بها وأسقطتها.
“تقدّموا! وسّعوا الطريق!”
صرخ القائد بذكاء، فأخذ جنود الدروع يخطون للأمام كلما ابتعدت الوحوش، مما أفسح ممرًا أوسع للمدنيين.
واصل إرنولف الصعود حتى بلغ حيث يقاتل ألبيرت. وهناك توقف لاهثًا، مطأطئ الرأس.
“هَا… هَا…”
كاد يسقط من الإعياء، فهرع بعض الجنود نحوه.
“سيدي، هل أنت بخير؟!”
“الركض… هَا… هَا…”
لوّح بيده وكأنه على وشك الموت من التعب. فالنار التي أشعلها لم تكن هي المشكلة، بل صعوده التل وهو بلياقة متواضعة جعل قلبه ورئتيه يكادان ينفجران.
‘يا إلهي… سأموت من الركض لا من الوحوش.’
وقف بصعوبة، ومد يده نحو ألبيرت.
“كرة النار (Fire Ball)!”
فوووووش!
انطلق من يده كرة نارية ضخمة أضاءت السماء ولفت الجميع بحرارتها.
“أهذا… كرة نار حقًا؟! ما عرفناه كان مجرد شرارة!”
تمتم أميلس مذهولًا. لقد رأى سحرة كثيرين في الحروب، لكن لم يرَ يومًا كرة نارية بهذا الحجم.
حتى زوجة البارون وحاشيتها على الأسوار وقفوا مصدومين.
“سيدتي، هل هذه فعلًا كرة نار؟!”
“يا له من فتى… يبدو هزيلًا، لكنه يفيض قوة.”
كانت كرة النار تبدو أبعد ما تكون عن تعويذة متدرب مبتدئ. مجرد النظر إليها كان يكفي ليحرق العيون بحرارتها.
‘فتى هزيل… لكنه يملك قوة لا تصدق.’
لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، ومع ذلك كان يملك قوة سحرية مدهشة.
في هذه الأثناء، كان اللاجئون والجنود يحدقون في السماء وقد توقفت أقدامهم عن السير من شدة الدهشة، بينما الحرارة تلف وجوههم.
‘تبًا… خرجت مني أكبر مما أردت.’
فكّر إرنولف بارتباك، وقد احمرّت وجنتاه خجلًا.
لكنه لم يشأ أن يحترق شعره، فأطلق الكرة بسرعة.
انطلقت الكرة النارية كنيزك أحمر يجرّ ذيلًا من اللهب.
“كييييك!”
صرخت الوحوش في رعب، لكن بعد لحظة ارتطمت الكرة بالأرض.
بووووم!
انفجرت بعنف، وتناثرت منها عشرات الشظايا النارية التي اجتاحت المنطقة.
“آخ!”
أخفض ألبيرت جسده وأخفى عينيه بذراعه بينما الأرض تهتز من الانفجار، والحرارة والرماد تضرب جسده بعنف.
وبعد لحظات، أحسّ بيد تهز كتفه بقوة.