28 - مكتبة الحاكم (2)
الفصل 28: مكتبة الحاكم (2)
على الرغم من أن المرأة كانت على وشك الاصطدام بإيرناتول، إلا أنها بدت غريبة الأطوار وهادئة. وسرعان ما فهم إرنولف السبب.
“آه!”
صرخ إيرناتول وكأنه اصطدم بدرع غير مرئي، فتجعد جسده.
ارتطم جسده الثقيل بالجدار غير المرئي، ثم انزلق ببطء إلى أسفل الدرج، قبل أن يبدأ في التدحرج بلا رحمة.
“ما هذا؟!”
تمسّك إرنولف بدرابزين السلالم، وهو يراقب إيرناتول يتدحرج ككرة ساقطة.
“آآه… أوووه… آآه…!”
واصل إيرناتول الصراخ عاليًا بينما يتدحرج بجنون حتى ارتطم أخيرًا بنهاية الدرج.
عندها فقط فتحت المرأة التي تقف في الأعلى فمها.
“ذلك المؤلف ليس لديه إذن بالوصول إلى ما هو أبعد من هذا. لا تكترث.”
هل استخدمت السحر لتوقفه؟ أم أن قوانين هذا المكان هي التي جعلت إيرناتول يتدحرج هكذا؟
بينما تدافعت التساؤلات في ذهنه، رفع إرنولف رأسه إلى الأعلى كما لو كان مسحورًا.
هناك، حيث سقط بصره، وقفت امرأة فاتنة الجمال، ذات شعر فضي لامع يتدلى كخيوط القمر.
بشرتها بيضاء كالثلج، وعيناها صافيتان كالألماس، فبدت وكأنها تمثال مقدس من نور القمر، لا إنسانة.
“أأنتِ…”
شعر إرنولف بالرهبة لدرجة أن صوته انكسر من الغموض المحيط بها. وبعد لحظة من الصمت، جمع شجاعته وتكلم:
“هل أنتِ صاحبة هذا المكان؟”
ارتعش صوته قليلًا وهو يطرح سؤاله.
ارتسمت ابتسامة طفيفة على محيا المرأة الجامد، فازداد ارتباك إرنولف، إذ لم يعرف كيف يفسرها.
إذا كانت هي صاحبة المكان، فهذا يعني أنه أمام ‘كائن متعالٍ’، قريب لحد اللانهاية من الحاكم نفسه.
شعر بحماس داخلي لأنه قد يجد مفتاح فك الارتباط أسرع مما كان يتوقع.
“لماذا تظن ذلك؟”
“لأنكِ دفعتِ ذلك الرجل للتو كما لو استخدمتِ درعًا سحريًا. ورغم أنني أعلم أن السحر لا يعمل هنا، إلا أنكِ استعملتِ قوة تشبهه… فظننتُ أنكِ الحاكمة المالكة لهذا المكان.”
“لم أكن أنا من أوقفه، بل قوانين هذا المكان.”
“قوانين هذا المكان؟”
دون أن توضح أكثر، استدارت المرأة وبدأت تمشي عبر الممر.
صعد إرنولف السلالم مسرعًا ليلحق بها، فشرحت بصوت هادئ لكنه واضح:
“هذا المكان يمتص كل المعرفة التي تحملها الأرواح التي تدخله.”
“ثم يفحصها ويصنفها ويعيد تشكيلها في صورة مألوفة للزائر.”
“إذن، لو أن شخصًا آخر دخل، قد يرى الكتب كألواح حجرية أو مخطوطات مثلًا؟”
“نعم. الشكل يتغير وفقًا لما يألفه كل شخص.”
أومأ إرنولف وقد فهم شيئًا مهمًا:
“إذن، حتى مظهر هذا البُعد كله قد يتشكل تبعًا لما اعتاد عليه الزائر؟”
“أنت سريع البديهة.”
أومأت برأسها بخفة، وهنا أدرك إرنولف سبب شبه هذا المكان بالمكتبة المركزية في إمبراطورية هايتن.
“لأن تلك المكتبة مألوفة لي، بدا لي هذا المكان مشابهًا لها.”
لكن سؤاله الأول ما زال عالقًا: هل هي فعلًا المالكة هنا؟
وقبل أن يسأل، بادرت المرأة قائلة:
“ما زلتَ تشك في أنني صاحبة هذا المكان، أليس كذلك؟”
“نعم. لأن ما أعجز أنا عنه، تفعلينه أنتِ بسهولة.”
“أكرر لك… إنما الذي قيّد ذلك المؤلف هي قوانين هذا المكان لا أنا.”
“إذن الوصول إلى المعرفة هنا محدود بحسب إمكانات الزائر؟”
“بالضبط. القيود المكانية التي تراها ليست إلا تمثيلًا بصريًا لتلك القوانين.”
“آه… إذن صحيح أن الأمر قد يبدو مختلفًا من شخص لآخر.”
أومأت برأسها ثانية، ثم التفتت نحو إيرناتول الغاضب أسفل الدرج، والذي كان يلوّح بقبضته ويصرخ، لكن صوته لم يصل إليهما. حتى الأصوات محجوبة!
شعر إرنولف بثقل في صدره وهو يراقب المشهد، ثم سأل:
“إلى أي مدى يمكنني الصعود إذن؟”
لكن المرأة اكتفت بابتسامة خفيفة.
كان معنى نظرتها واضحًا: ‘ستعرف بنفسك إذا جرّبت.’
فاندفع إرنولف نحو السلالم بحماس، ثم تذكّر فجأة أنه لم يقدّم نفسه. فتوقف واستدار إليها:
“آه… لم أعرّفك بنفسي. أنا إرنولف توريني.”
انحنى قليلًا باحترام، فردت بابتسامة هادئة:
“إلفريدي سيريل.”
اتسعت عينا إرنولف بدهشة، وكأن صاعقة ضربت رأسه.
“هل قلتِ… إلفريدي سيريل؟!”
“نعم.”
“أتعنين… تلك ‘إلفريدي سيريل’؟!”
“هل تعرفني؟”
كان من السخافة أن يُسأل ساحر إن كان يعرف “أمّ السحر”، مؤسسة القوانين السحرية الأساسية.
***
“كم مرة عليّ أن أقول إنني لم أذهب بمحض إرادتي! لم أدرِ أن مجرد تذكري لعبارة ‘مكتبة الحاكم سيسحب روحي إلى هناك! لم أقصد أن أتركك وحدك!”
“وإن سُحبت صدفة، كان عليك أن تعود فورًا! لكنك بقيت هناك مع امرأة… بل وتتجرأ الآن أن تتذمر؟!”
“امرأة؟! أتعلم عمّ تتحدث؟! تلك كانت إلفريدي سيريل، أمّ السحر نفسها! إنها وجود إلهي بالنسبة لكل السحرة!”
“هل كانت جميلة؟”
سأل كازار، وهو جالس على ركبته، يضغط بيديه على حافة الجسر المكسور.
أما إرنولف، فكان يتأرجح رأسًا على عقب مربوطًا بحبل عند الجسر المكسور، ويصرخ.
“لِمَ لا تجيب؟ هل كانت جميلة؟”
“ن… نعم… كانت جميلة… آآه!”
اعترف بصدق، فما كان من كازار إلا أن هز الحبل بقوة، ليتأرجح إرنولف فوق هاوية مليئة بمسامير حجرية مسننة، مغروزة فيها جثث الكهنة، بينما يتساقط منها سائل سام. سقوط واحد هناك يعني الموت المحتم.
“هراء. سواء كانت أم السحر أو أباها، فقد أسرتك بجمالها حتى نسيت روحك وأهملتني!”
“هذا غير صحيح! لقد تعلمت منها صيغة سحرية عظيمة!”
“وهل هذا أهم من ترك أخيك الوحيد وحيدًا في زنزانة مظلمة؟!”
تجمد إرنولف. في مكتبة الحاكم لا يمر الوقت، لذا لم يشعر به وهو يمضي، ولم يدرك كم طال غيابه عن العالم الحقيقي.
أدرك فجأة أنه ترك كازار، المصاب بجروح خطيرة من قتال ريكس جيجانتيا، وحيدًا. فامتلأ قلبه بالذنب.
“آسف… ما في الدنيا أعزّ عندي منك. لم أعلم أن الوقت مرّ هكذا!”
تنهّد كازار وقال ببرود:
“لهذا السبب تحوم الأشباح من حولنا.”
“أشباح؟ ماذا تعني؟”
“كم مرة تظن أنني أعدت إحياء قلبك بينما كنت تلهو هناك؟”
“قلبي… توقف؟!”
“نعم. لولا أنني بثثت فيه الهاله مرارًا، لكنت الآن شبحًا مثل سيه واهو.”
(م.م: هنا كازار غلط في اسم سيريل).
انقبض قلب إرنولف، وقد أدرك خطورة الأمر. كاد أن يفقد حياته دون أن يشعر!
ثم أضاف كازار:
“ذاك القلب الذي تسمونه قلب ملك الوحوش، ما هو إلا طُعم. يمتص الأرواح ويحبسها في مكتبة الحاكم. الكتب هناك ليست إلا غنائم الأرواح التي ابتلعها.”
ارتجف جسد إرنولف، إذ أدرك أن الكتب التي قرأها قد تكون بقايا موتى!
‘كدت ألقى المصير نفسه…’
لو لم يكن كازار بجانبه، لكان انتهى الأمر.
“كازار… رجاءً أنزلني. هذا الوضع مضر للقلب فعلًا!”
ابتسم كازار بسخرية، ثم هز الحبل من جديد:
“هل تريد الموت بالفعل؟”
تأرجح إرنولف وهو يصرخ، قبل أن يوافق أخيرًا على شرط كازار:
ألا يدخل أو يخرج من مكتبة الحاكم دون إذنه.
وبعد أن أطلق سراحه، انهار إرنولف على الأرض يتقيأ كل ما في معدته.
ابتسم كازار وقال:
“عادة ما يصاحب البصيرة بعض الألم.”
ثم أضاف مهددًا:
“إن كررتها مرة أخرى… سأعلقك عاريًا في الساحة.”
كان جادًا، وإرنولف يعلم أنه سينفذ تهديده.
“على أي حال… ماذا تعلمت من ذلك الشبح؟”
رمق إرنولف نظرة حادة عندما سمع كلمة “شبح”، لكنه تجاهل الأمر وأجاب بحماس:
“لقد علمتني صيغة سحرية لزيادة كفاءة استخدام المانا! ليست صيغة لتعزيز قلب المانا، بل لتحسين دوائر الحقن المستخدمة في كل التعاويذ تقريبًا. هذا مجال يتطلب سنوات من البحث والتجريب، لكن بفضل لقائي بها تجاوزت كل ذلك! أليس مذهلًا؟”
قاطعه كازار بعصبية:
“كفّ عن الثرثرة! قلها ببساطة!”
تنهد إرنولف وقال مختصرًا:
“ببساطة، أستطيع الآن استخدام نفس كمية المانا لكن بفعالية مضاعفة. صحيح أنها تأخذ وقتًا أطول قليلًا، لكنها تعطي نتائج أقوى بكثير.”
ابتسم قليلًا بفخر، ثم أضاف:
“وليس هذا فحسب… لقد نلت شيئًا آخر أيضًا من مكتبة الحاكم.”
قال ذلك، ثم مد يده نحو الجسر المكسور، وبدأ يُطلق تعويذة جديدة…