152 - نذير قلق (3)
الفصل 152: نذير قلق (3)
“أين تذهب؟ هل ستخرج؟”
“هل ستذهب بعيداً؟”
حين نهض وال من مكانه، نظر إليه الأطفال بعيون مستديرة كبيرة وسألوه.
كان بصره يتنقل بين مدخل الكهف المسدود بالأغصان، وبين والد الأطفال الممدد.
صحيح أن الأطفال كانوا مستذئبين، أقوياء وشجعان، لكنهم كانوا صغاراً جداً ليُتركوا وحدهم في غابة تعج بمصاصي الدماء والوحوش. فكر وال أن من الأفضل أن ينتظر حتى يستيقظ والدهم، فعاد وجلس مكانه.
“هل تعرفون اسم القرية التي تحول فيها البشر إلى وحوش ذوي العيون الحمراء؟”
“أعرف!”
“وأنا أعرف!”
أجاب الأطفال بانفعال تلقائي، لكنهم لم يتذكروا الاسم حقاً. فجاء صوت الرجل من جهة أخرى:
“اسمها كايلّيون. بسبب الحصن المقام فيها يسمونها قرية الحصن.”
“أبي!”
“هل شُفيت؟ هل أصبحت بخير الآن؟”
قفز الأطفال فرحين وتعلقوا بعضديه وساقيه القويتين، يثرثرون بقلق على حاله كالعصافير الصغيرة.
ضمّهم الرجل إلى صدره وهو يطوف بنظره داخل الكهف، ثم أمسك حجر القمر الذي وُضع فوق جراحه. كان الحجر يبعث ضوءاً لطيفاً، فأمسكه وتأمله هامساً:
“كيف وصل حجر قمري ثمين كهذا…؟”
اقترب وال ورفع العقد بأصابعه، ثم بكل بساطة علّقه في عنقه.
سأله الرجل وهو يحدق فيه:
“هل هذا لك؟”
“نعم.”
“ولماذا يحمل إنسان حجر القمر؟”
نظر إليه ملياً بعينين حادتين.
‘إنسان…؟’
تساءل وال في نفسه وهو يكاد يضحك بسخرية. ‘هل يرونني بشرياً الآن؟’
تذكر كيف أن كازار كان يوبخه بشدة في جبال دنسالبِي ليُقلع عن عادة التلعثم ويتخلص من طباع المستذئبين خلال شهر واحد فقط.
رغم أن فترة عيشهما معاً لم تكن طويلة، إلا أن ذكرياته معه كانت عميقة لدرجة تجعله يشعر وكأنهما قضيا عمراً معاً.
ابتسم وال بخفة وقال:
“وهل هناك مشكلة إن كان إنسان يحتفظ به؟”
“لا، ليس ذلك… لكن حجر القمر هو…”
وتوقف وقد أدرك فجأة أن الفتى استعمل الحجر لمعالجة جراحه، وهذا يعني أنه كان يعرف حقيقتهم.
“كنتَ تعلم أننا مستذئبين”
“كنتم واضحين جداً.”
فور سماع ذلك، التفت الرجل إلى أطفاله بحدة:
“كم مرة قلت لكما ألا تتحولا في أي مكان؟!”
“لا يا أبي، لم نتحول!”
“لقد أكلنا اللحم هكذا… هكذا!”
فتحا أفواههما الصغيرتين ومثّلا كيف التهما اللحم، يحاولان إثبات براءتهما. لكن الرجل وضع يده على جبهته وهو يتنهد بعمق.
ثم أعاد بصره إلى وال، لكن هذه المرة كانت نظرته مختلفة؛ حذرة، مشوبة بالريبة.
“أأنت لست بشرياً من هنا؟”
“لماذا تسأل؟”
“الأوضاع في هذه المنطقة لم تعد آمنة أبداً.”
كان وال يعرف أن حملة اصطياد المستذئبين التي بدأها الكونت ديتوري امتدت إلى الأراضي المجاورة. لكنه تظاهر بالجهل وحوّل الموضوع قائلاً:
“أخبرني عن الوحوش في قرية الحصن. أظنني رأيت مثلها في المكان الذي أتيت منه.”
“وأين رأيتها؟”
“في إندويل.”
“في الشمال الشرقي إذن… وجودها حتى في تلك المدينة الكبيرة يعني أن الوضع خطير جداً.”
“يبدو أنك تعرف القرى البشرية جيداً.”
فأجابه الرجل بأنه كان يتردد على القرى كثيراً لبيع الجلود والأعشاب.
“وهل سقطت إندويل بيدهم أيضاً؟”
“لا. أوقفهم معلميّ.”
“إذن معلمك قوي فعلاً.”
كاد وال أن يتفاخر قائلاً إن أساتذته قاتلوا حتى التنانين، لكنه تماسك.
“أساتذتي أسموهم مصاصي دماء. تحديداً: مصاصي دماء أبانوس.”
“مصاصو دماء… أجل، يشربون دم البشر، فالاسم يليق بهم.”
“هل يمكنك أن تخبرني بالتفصيل عما رأيت في كايلّيون؟”
“بالطبع. لقد أنقذت حياتنا، فهذا أقل ما أفعله.”
جلس مستقراً، وساعده وال ليعتدل، ثم ناوله ماءً دافئاً بسحر المانا. شربه الرجل ببطء حتى هدأ نفسه وجفاف حلقه، ثم بدأ يروي:
“لم تعد قرية الحصن قرية بشرية، بل أصبحت وكراً لمصاصي الدماء.”
كان المذبح الذي شيدوه هناك أعظم وأوسع بكثير من الذي في كالوانوي، وكان يحرسه كاهنان مصاصا دماء.
“بحجمه ذاك يمكنهم إحياء أضعاف مصاصي الدماء، وتحويل الكثير من الناس.”
ثم أضاف بصوت متعب:
“تقول أم أطفالي إن حتى قلعة اللورد نفسه صارت وكراً لهم. ولولا أن اللورد، وهو سيّد سيف، لم يكن موجوداً في المقاطعة، لما خرجنا أحياء.”
شعر وال بغصة عند ذكر أم الأطفال، لكنه لم يسأل.
“الكونت ديتوري موجود الآن في إندويل.”
“ماذا؟! كنت أسمع أنه عند الحدود الجنوبية… أتقول إنه هناك؟!”
“رأيته بعيني في قلعة لورد إندويل قبل أن أغادر.”
“هل أصبح هو أيضاً مصاص دماء؟ ابنه تحول بالفعل.”
فكر وال بعبوس: ‘إذن ما قاله كازار صحيح، كان مذبح مصاصي الدماء قريباً من إندويل… ولم أعلم أنه في أراضي ديتوري.’
“لا، إنه ما يزال بشراً.”
وفي تلك اللحظة تسربت من جسده هالة قاتلة مظلمة. ارتجف الأطفال وتمسكوا بأبيهم، فيما مدّ الرجل يده باحثاً عن سلاح بخوف. لكن وال محا هالته فجأة وسأله ببرود:
“هل تعلم أن مصاصي الدماء يعودون للحياة حتى بعد قتلهم؟”
“حين سمعنا أن الكونت يخطط لإبادة المستذئبين استعددنا مسبقاً. في البداية خُضنا المعركة وفزنا، أو هكذا ظننا، فقد قطعناهم جميعاً. لكن سرعان ما عاد الذين قتلناهم أحياء. حتى المقطوع الرأس والمطعون في القلب… عادوا كما كانوا. لم يكونوا يموتون.”
ارتجف صوته وهو يسترجع الكابوس:
“أُضرمت النيران في البيوت، اختلطت الصرخات، وغمرت الدماء الطرقات… ومع ذلك، استمروا في النهوض.”
كانت المعارك لا تنتهي. كلما سقط قتيل جديد من البشر، استؤنف القتال بلا توقف.
“مرة، مرتين، ثلاثاً، أربعاً… كنا نقاتل بلا نهاية. قطعنا أوصالهم، أشعلنا فيهم النار… لكن لا فائدة. كانوا يعودون ليضحكوا في وجوهنا.”
انخفض عدد القرويين تدريجياً، ومعه انهارت عزيمتهم. حتى أن بعضهم ألقى سلاحه تماماً.
“لم نكن نستطيع الانتصار عليهم.”
قالها وهو ينظر بحزن إلى أطفاله، معترفاً أنه في النهاية لم يجد سوى الهرب معهم.
لكن وال ردّ بصرامة:
“مصاصو الدماء في كل مكان. أينما هربتم، ستجدونهم.”
“سنرحل شمالاً.”
“شمالاً؟! أتقصد عبور جسر القارة إلى الشمال الأعظم؟”
“سمعت أن المستذئبين هناك أكثر منا عدداً. في الحقيقة، كل المستذئبين أصلها من هناك… من سيلفانهايم.”
وأشار إلى العقد في عنق وال:
“ذلك الحجر القمري جُلب من هناك. من أرض وُلد فيها أول مستذئب، ابن القمر وُلفرانغ.”
تذكر وال أسطورة سمعها من أبيه: سيلفانهايم، الأرض المقدسة التي نزل إليها المستذئ الأول المحبوب من حاكم القمر. أرض الثلوج الأبدية والغابات العتيقة… وطن المستذئبين.
“إذن كانت موجودة حقاً.”
“عجيب أن يعرف إنسان أسطورة سيلفانهايم.”
لكن داخله بدأ يشك: ‘سمعت أن سكان قرية الذئاب الرمادية أُبيدوا جميعاً… إلا هجيناً واحداً نجا. أيمكن أن يكون هو؟’
ثم هز رأسه: ‘لا، لو كان مستذئباً حقاً لما أبقاه اللورد حياً. ثم إنه يستخدم المانا، وهذا لا يقدر عليه سوى ابن القمر وُلفرانغ نفسه.’
قطع أفكاره صوت وال الجاد:
“لقد أنقذت الأطفال، وأنقذتك أنت. أريد منك خدمة واحدة فقط.”
تفاجأ الرجل، لكنه سكت منتظراً.
“اذهب إلى إندويل، وأخبر معلميّ أن في كايلّيون مذبحاً لمصاصي الدماء.”
“أتريدني أن أذهب برجلي إلى حيث يوجد ديتوري؟! مستحيل.”
“لا تدخل القلعة. فقط قف خارجها واصرخ بما قلته، سيخرج أحدهم إليك.”
ظل الرجل متردداً، فمد وال العقد نحوه:
“خذ هذا الحجر. فقط قل لهم إنك جئت برسالة من تلميذ كازار وإرنولف.”
تردد الرجل، لكن الحجر القمري تلألأ بضوء القمر، فارتجف قلبه.
قال وال بصرامة:
“لقد أنقذت حياتكم. أليس هذا أقل ما يمكنك فعله؟”
“وما الذي ستفعله أنت بينما نذهب؟”
أجاب وال بعد صمت قصير، بعينين ملؤهما العزم:
“سأذهب إلى قرية الحصن… لأدمر مذبح مصاصي الدماء.”