149 - قبل أن يحلّ الظلام (4)
الفصل 149: قبل أن يحلّ الظلام (4)
جلست سيلينا في مكانها، تتبادل التحيات مع الضيوف. لم يصل التوأمان بعد إلى قاعة الوليمة، فبقي مقعدان فارغان في أقصى الطرف.
ولما راحت تبحث عنهما بعينيها، انحنى الخادم المرافق إليها وهمس:
“إنهما سيتأخران قليلًا بسبب الاستعداد.”
كانت سيلينا تعلم جيدًا أنّ التوأمين يقضيان كل يومهما في ورشة الكيمياء يعملان بعرقٍ وجهد.
أومأت برأسها ثم وجّهت أنظارها إلى منتصف المائدة الطويلة حيث جلس شابان.
أحدهما مرشَّح من عائلتها، والآخر من عائلة زوجها. كلاهما لم يكن غريبًا عنها، فقد اعتادت رؤيتهما في اجتماعات العائلة، غير أن الموقف الحالي جعل كليهما متوترًا.
وقف الشاب الأول بانحناءة مهذّبة وقال:
“أشكركم على دعوتي، يا صاحبة المقام.”
كان هذا ليون بيرساد، مرشَّح عائلة بيرساد. شاب في التاسعة عشرة من عمره، ساحر واعد أظهر موهبته منذ أن أيقظ قلب المانا وهو في التاسعة، وقد بدأ هذا العام دراسة السحر المتوسط بعد عشر سنوات من التدريب.
شعره بلون القمح، طويل ينسدل على كتفيه، وملامحه حادة، عيناه رماديتان عميقتان. ورغم بقاء مسحة من الطفولة على وجهه، بدا أنه يحاول جاهدًا التصرّف بثبات ورصانة تليق بساحر.
جلس ليون من جديد، فنهض من الجهة الأخرى شاب آخر.
“وأنا أيضًا أتقدّم بجزيل الشكر على دعوتكم الكريمة.”
كان هذا إدمون بنهايم، مرشَّح عائلة بنهايم، مقاتل هاله يبلغ الثانية والعشرين.
امتلك شعرًا بنيًّا داكنًا، وذقنًا قويًّا، وعيونًا زرقاء تذكّر الحاضرين بالراحل أرنو بنهايم، حاكم إندويل السابق، حتى بدا وكأن شبابه قد عاد مجددًا.
لقد مُنح لقب الفروسية من دوق نونيمان نفسه، وكان فارع الطول عريض الكتفين، يزيد حضوره قوة وهيبة. وفوق عباءته السوداء ارتدى درعًا جلدية منقوشًا عليها شعار بنهايم، مما أضفى انطباعًا وكأنه قد عُيّن بالفعل وريثًا لإندويل.
“ما زلت أذكر وجوه طفولتكم، وها أنتم تكبرون لتصبحوا رجالًا موهوبين. أرجو منكما أن تساهما في مستقبل إندويل.”
أجاب ليون أولًا بنبرة هادئة:
“سأبذل قصارى جهدي، وإن كان قليلًا.”
أما إدمون فقام بسرعة، وضع يده على صدره وقال بصوت جَهوري:
“طالما دم بنهايم يجري في عروقي، فالدفاع عن إندويل واجب لا مفر منه. سأفي بالتوقعات مهما كلفني الأمر!”
ضحكت سيلينا قليلًا وقالت:
“لا داعي لأن تنهضا في كل مرة تتحدثان معي.”
جلس ليون مجددًا مطأطئًا رأسه بهدوء، بينما أجاب إدمون بصوت صريح وقوي.
وبينما كانت تراقبهما، دخل التوأمان إلى القاعة.
تسلّطت كل الأنظار فورًا عليهما.
تقدّم إرنولف أولًا. ابتسمت سيلينا وقدّمت التعريف بنفسها:
“لا شك أنكم سمعتم عنه، إنه الساحر إرنولف.”
فوجئ الحضور أن السيدة بنفسها قد تولّت التعريف به بدلًا من الخدم.
وكان ليون بيرساد يراقبه بعناية، كونه ساحرًا مثله. وما رآه لم يكن عاديًا: خطوات إرنولف هادئة متزنة، وجهه واثق بلا تكبّر، تحرّكاته رصينة أشبه بنبلاء البلاط المتمرّسين.
قال إرنولف بصوته الهادئ المعتاد:
“أعتذر عن التأخير.”
فأجابته سيلينا:
“لا بأس، اجلس.”
شكرها ثم انحنى قليلًا للحضور قبل أن يجلس، حتى هذا التصرف الموجز بدا أنيقًا ومدروسًا.
لم يملك ليون إلا أن يتمتم في نفسه:
‘هذه هيئة لم تُكتسب بالصدفة… إنه مُدرَّب كنبيل رفيع المقام)’
ثم التفت إرنولف نحوه وألقى نظرة سريعة، فارتجف ليون من حدة عينيه الخضراوين العميقتين.
بعده، عرّفت سيلينا التوأم الآخر:
“وهذا شقيقه الأصغر، مقاتل الهاله كازار.”
جلس كازار في مواجهة أخيه بعد أن حيّا الحاضرين باقتضاب. ومن نظرة واحدة إلى جسده، أدرك الجميع أنه مقاتل فذّ: عضلاته منحوتة بإتقان، حركته مرنة متقنة، كل خطوة محسوبة بلا شائبة.
لاحظ إدمون ذلك مباشرة، وقال في نفسه:
‘السمعة التي تسبقه لم تكن مبالغة، إنه خطير حقًا’
وسرعان ما عمّت القاعة رهبة غير مبررة، فالحضور استشعروا هالة كازار الوحشية الممزوجة بالانضباط.
ضحكت سيلينا في سرّها:
‘ها هو الجوهرة التي اكتشفتها، يلمع أينما وُضع.’
ثم دخل الطهاة يقدّمون الأطباق الفاخرة. لحم أيل سيلفر فين النادر من شمال القارة، منقوع بخمر فاخر ومشوي على زبدة خاصة. قُدّم مع بيرة باردة نصف مجمّدة.
انبهر الضيوف، أما إرنولف فتذوّق اللحم وأشرق وجهه. ابتسمت سيلينا بارتياح، إذ كانت قد اجتهدت خصيصًا لإرضاء ذوقه الدقيق.
وبعد الطعام، قُدّمت الحلويات وأضيئت الشموع. عندها طرقت سيلينا كأسها برفق، فعمّ الصمت القاعة.
“سأعلن الليلة كيف سنختار وريث إندويل.”
ارتجف الجو فجأة، فأكملت:
“الوريث سيكون من يقدّم أعظم مساهمة في المعركة القادمة ضد مصاصي الدماء. لن أنظر إلى الأصل أو النسب، بل إلى الجهد والإنجاز فقط.”
صُعق النبلاء وساد الهمس. رفعت سيلينا يدها بإشارة صارمة:
“حتى لو كان تاجرًا أو من عامة الشعب، أو حتى عبدًا، فلا استثناء. إن أظهر الجدارة، فسأتخذه وريثًا.”
تبدّلت وجوه الحاضرين، بعضهم بالقلق، وبعضهم بالذهول.
“لكن بالطبع يجب أن يكون في سنّ مناسبة. من الخامسة عشرة إلى الخامسة والعشرين.”
تنفّس إدمون الصعداء، إذ كان يبلغ 22 عامًا.
لكن فجأة، ضحك كازار وهو يرفع كأسه قائلًا بصوت منخفض:
“ممتع.”
“أجل، ممتع بالفعل. وأنا أيضًا متشوّقة لأرى من سيكون الوريث.”
رفعت كأسها عاليًا وهتفت:
“إلى إندويل!”
فكان إدمون أول من ردّد خلفها بحماس:
“إلى إندويل!”
ثم رفع الجميع كؤوسهم وانضمّوا إلى الهتاف.