110 - تينبسل المشتعل (1)
الفصل 110: تينبسل المشتعل (1)
من المسلَّم به في القتال أن الطرف الذي يمتلك قدرة تحرّك أعلى يكون أكثر تفوقًا، حتى لو كانا متكافئين في القوة.
مصاصو الدماء أبانوس كانوا أكثر عددًا من رفاق إرنولف، وقبل كل شيء كانوا يتمتعون بسرعة خارقة للطبيعة. فقد كانوا قادرين على القفز إلى ارتفاع الأشجار، والجري بسرعة بحيث لا تُرى حتى ظلالهم.
لمواجهة مثل هؤلاء والنجاة، كان لا بد من امتلاك قوة ساحقة وخطة دقيقة.
قسّم إرنولف رفاقه إلى ثلاث مجموعات، محددًا لكل منها دورها.
المجموعة الأولى كُلف بها كازار ووال، ومهمتهما كانت الهجوم المفاجئ على المذبح، وتدميره، والتخلص من الكاهن لعرقلة الطقوس.
المجموعة الثانية ضمت إلسيد، هيلفينا، والأخوين غلايمان. مهمتهم كانت إنقاذ الأسرى وحمايتهم، حيث كان من المتوقع أن تلعب منطقة الحماية التي سينشرها إلسيد مستعينًا بقوة المتعالي فيستا دورًا أساسيًا.
المجموعة الثالثة والأخيرة كانت من نصيب إرنولف وحده.
“ماذا تنوي أن تفعل وحدك؟ ألن يكون أفضل لو ذهبت مع أحد الأخوين؟ تدمير المذبح وإيقاف الطقوس هي المهمة الأهم بعد كل شيء.”
بعد أن شهد سابقًا كيف كاد إرنولف أن يُقتل عندما أُرسل وحده، لم يكن إلسيد مرتاحًا لفكرة أن يخوض مجددًا مهمة منفردة.
“لا. أهم ما في هذه العملية هو أن ينجو الجميع ويهربوا بسلام. وأنا أنوي إحضار معاون من أجل ذلك.”
“معاون؟! هل هناك شخص قريب سيأتي لينقذنا؟”
“نعم، هناك. لكنه سيفيدنا بقدر ما قد يجلب علينا ضررًا عظيمًا أيضًا، فهو كالسيف ذي الحدّين.”
“وما هويته بالضبط…؟”
“إنه…”
حين أجاب إرنولف على سؤال إلسيد وذكر اسم المعاون، انفجر كازار غاضبًا:
“ما الذي يؤمن به الرجل الذي يبدو مثل العظم حتى يكون متهورًا إلى هذا الحد؟”
أومأ الآخرون برؤوسهم بصمت.
في البداية، عندما رأوا التوأم لأول مرة، ظنوا أن كازار هو من يفتعل المشاكل بينما يتولى إرنولف إصلاحها. لكن مع التجربة، اتضح العكس. بل يبدو أن وجود كازار هو ما أبقى الأمور تحت السيطرة إلى هذا الحد.
“أنا لست متهورًا إلى هذا الحد. لولا وجودك، لما خطر لي حتى أن أحاول.”
“لهذا السبب قلتَ قبل قليل إنك تشعر بالاطمئنان لوجودي؟”
“نعم.”
أومأ إرنولف ببراءة، فما كان من كازار إلا أن رفع رأسه نحو السقف صارخًا صرخة صامتة. لو لم يكن هناك أعداء يتجولون فوق رؤوسهم، لكان غضبه قد اخترق السقف.
“لقلب كفة العدد الذي ليس في صالحنا، لا مفر من القيام بمحاولة محفوفة بالمخاطر.”
“حتى وإن كان الأمر كذلك، أنت المجنون!”
“لن نقاتل، بل سننسحب فقط. لا تقلق كثيرًا.”
هدّأ إرنولف من روع كازار، ثم التفت إلى إلسيد.
كان إرنولف يعرف أن فيستا هي الحاكمة الوحيدة للدين العظيم الذي يهيمن على القارة.
أما أبانوس، فقد كان مجرد حاكم تافه، لم يدم ظهوره في العالم طويلًا سوى أنه أثار بعض الضوضاء، ولم يرد ذكره إلا في بضعة أسطر في كتب السحر الأسود.
لذلك، كان من المستحيل تقريبًا على أتباعزأبانوس أن يتعدّوا على المجال المقدس لفيستا.
إرنولف كان يخطط لاستغلال هذه النقطة، ليصنع منطقة آمنة داخل معسكر العدو نفسه.
لكن، كانت هناك ثغرة قاتلة في هذه الخطة، الشخص الذي سيُقيم المجال المقدس هو إلسيد نفسه.
قال إلسيد، وكأنه استبق ما كان إرنولف سيوصي به:
“سأحافظ على المجال المقدس مهما حدث… حتى ينضم إلينا كازار.”
كان يعلم أنه ضعيف في التحكم بالمانا، والآن سيدخل المعركة دون أن يتمكن من شحن طاقته بالكامل، لذا شعر بقلق شديد. بدا جسده متصلبًا ومشدودًا لدرجة أنه أوحى بأنه سينهار بمجرد لمسة.
“سيد إلسيد، في الحاضر أو المستقبل، لن يكون هناك عصر لأبانوس. فلا تقلق كثيرًا.”
عند سماع هذه الكلمات المليئة بالثقة، شعر إلسيد ببعض الارتياح، وزفر تنهيدة طويلة.
“ستكون بركة فيستا معنا.”
ورغم أن إرنولف كان قلقًا بشأن المدة التي سيتمكن فيها إلسيد من الحفاظ على المجال المقدس، إلا أنه لم يُظهر ذلك.
وأخيرًا، وجّه إرنولف ملاحظة إضافية إلى كازار.
“كازار، لا تشتت نفسك، وانضم في الوقت المحدد.”
“ولِمَ قد أشتت نفسي هناك؟”
“أقصد، لا تدع كاسيون يشغلك.”
لم يكن الخطر في مدى صمود مانا إلسيد فقط، بل ما أقلق إرنولف أكثر هو حقد كازار العميق ورغبته الجامحة في الانتقام من كاسيون.
فإذا لم يكن كازار حاضرًا في اللحظة الحاسمة لتوجيه الضربة الأخيرة، فلن تكون حياة الأسرى، ولا حتى حياة رفاقه، مضمونة.
“اهتم بنفسك أولًا.”
“حسنًا. سأفعل. لكن كن حذرًا حتى لا تُصاب.”
ثم أوصى إرنولف وال أيضًا بالحذر، وفتح المخرج.
ظهر ثقب ضيق بالكاد يتسع لشخص واحد، ومن خلاله هبّت نسمة هواء باردة.
“هُـم…”
استنشق كازار الهواء النقي بعمق، ثم خرج أولًا، وتبعه وال. سرعان ما اختفى الاثنان بصمت وسط الغابة المظلمة.
“أتمنى لكما حظًا موفقًا.”
“نلتقي لاحقًا.”
وبعد فترة قصيرة خرج الإخوة غلايمان، وإلسيد، وهيلفينا تباعًا.
أما إرنولف، فقد بقي في الزنزانة المظلمة مع ليلى، وزفر تنهيدة منخفضة.
“حسنًا… فلننطلق نحن أيضًا.”
عند كلمات إرنولف لم تقل ليلى شيئًا، واهتزت أجنحتها مرتعشة.
“لا بأس. هذه المرة لن نقاتل. عليك أن تساعديني كثيرًا ليمكنني من التملص جيدًا، ليلى.”
بعد أن ربّت برفق على الجنية الصغيرة الجاثمة على كتفه، أطلق إرنولف تعويذة السرعة. ثم عاد في أثره تاركًا خلفه وهجًا أبيض.
***
انخرطا كازار ووال بصمت في اجتياح الغابة نحو الهدف. كان كازار معتادًا على التحرك بسرية، ووال هجين مستذئب نشأ في الغابة.
خلال الطريق لاحظا مصاص دماء يقوم بدورية، لكنهما لم يهاجماه—أخفيا أثرهما وتجنبا منه بهدوء.
وبسرعة وصلا إلى موقع مكّنهما من رؤية المذبح.
قبل الانطلاق استخدما ليلى للاستطلاع مرة أخرى، وكما رآها آنذاك، لم يكن الأسرى ولا كاسيون بالقرب من المذبح.
بدت الطقوس على وشك البدء، فجرّوا بعض الأسرى، مكبلين، صفًا صفًا نحو المذبح.
ما إن لمح وال وجوههم حتى تحوّل. انتفخ جسده الصغير فجأة ككرة، وامتدت أنيابه وأظافره، وبزغت عضلاته فأصبح مظهره شرسًا.
سدّ كازار فم وال وجذبه نحوه بقوة. تحرّك وال محاولًا الإفلات بالتلوّي، لكنه لم يستطع مجابهة قوة كازار.
“اهدأ قبل أن أكسر رقبتك تمامًا.”
عندما توقف وال، الذي كان يشق الهواء بمخالبه في كل اتجاه، عن الحركة، همس كازار في أذنه:
“أنا أيضًا لا أريد أن أترك هؤلاء أحياء. لذا اهدأ وابقَ هادئًا.”
بعد أن قال ذلك، أرخى كازار قبضته عن ذراعه. اندفع وال سريعًا مبتعدًا عنه والتصق بحجر أمامهما—لأنه من هناك سيتمكن من رؤية الأسرى بوضوح أكبر.
كان هناك غوب ديتوري، ابن الكونت ديتوري، والمرتزقة الذين استأجرهم؛ رجالٌ إذا مزقت أجسادهم أشلاءً فلن يطفئ ذلك غضبًا في القلوب.
بينما كشف وال عن أنيابه غاضبًا، صاح فجأة الكاهن المرتدي الأحمر مبسّطًا أصابعه كالمخالب نحو السماء:
“يا سَيِّدَ حُكْمِ الليل الأبدي، يا حاكم الظلام، احط هذه الأرض بقوتك! دَع ظلَّك يمتد بحسب مشيئتنا!”
لمَّا وضع يديه على الأرض، انطلقت المانا من راحتيه وانتشرت سريعًا على طول دوائر سحرية هائلة امتدت كشبكةٍ من الطاقة.
وسرعان ما أُنشئ الحلقات السحرية المثبتة أمام المذبح وأضاءت بضوء نذير.
اندفع وال ليقفز نحو المذبح، لكن أمسك به كازار هذه المرة فلم يستطع أن يتحرك.
إذا اكتملت الطقوس، سيتحوّل جميع الأعداء إلى مصاصي دماء؛ عندها لن يكون بالإمكان قتلهم إلا إذا دمّروا المعبد الموجود في أكارون. لم يكن في رأس وال الآن سوى هذه الفكرة.
“اتركني! إن لم أقتلهم الآن فلن أستطيع قتَلَهم بعدها!”
همّ وال صارخًا بنظراتٍ مشتعلة صوب غوب الذي كان يُجرُّ نحو المذبح، ثم تذكّر فجأة أن سبب قدومهما إلى هنا كان إنقاذ هؤلاء.
“هؤلاء لا حاجة لإنقاذهم. دمرهم مع المذبح!”
“هذا مستحيل.”
لم يستطع وال أن يفهم ما يقصده كازار. ألم يقل قبل قليل إنه لا يود إنقاذهم؟
“وال، الكونت ديتوري الذي قتل والدتك وجيرانك، هو شخص يكره الوحوش التي تتخذ شكل الإنسان مثل المستذئبين.”
“وماذا في ذلك؟”
“وماذا يعني ماذا في ذلك؟ بعد كل ما قلته، يجب أن تفهم!”
حين تعرف كازار على غوب والمرتزقة ولم يخبر إرنولف، كان يخطط لهذه اللحظة مسبقًا.
“ألا تتساءل كيف سيكون رد فعل الكونت ديتوري عندما يرى ابنه يتحول إلى وحش؟”
تخيل وال مشهد الكونت ديتوري يقتل غوب، فهز رأسه.
“مهما يكن، لن يقتل ابنه.”
“حينها، سنجعل الأمر لدرجة أنه لا مفر من قتله.”
“ماذا؟”
“أو يمكننا قتله نحن، أمام أعين والده.”
فكرة أن يتعرض غوب والكونت ديتوري لنفس الألم، بينما تذكّر وال والدته تُقتل بوحشية أمام عينيه، جعلته يرتعش كمن أصابه صاعقة.
قال كازار بابتسامة مظلمة:
“ذلك رائع… سنقطع أطراف غوب واحدة تلو الأخرى، أمام عيني الكونت ديتوري.”
ارتعش بريق الجنون في عيني وال، وهو يتخيل لحظة الانتقام في ذهنه.
‘أخيرًا أصبح يشبه والفريد الحقيقي.’
كان الناس يظنون أن والفريد صبي لطيف وبريء، لكن الشخص الذي يعرفه كازار كان مجنونًا يستمتع بسلخ البشر وشنقهم على أسياخ الموت.
“نعم، دعنا نرد لك ولأمك الألم ذاته، يا وال.”
شعر كازار بسعادة حقيقية لأنه بدا وكأنه استعاد والفريد الحقيقي أخيرًا.
***
اختار الكاهن جيليدوس بين الأربعين أسيرًا بعضًا منهم لمنحهم بركة الخلود.
تم اختيار الأشخاص القادرين على استخدام الهالة القتالية والماهرين في القتال، ومن بينهم غوب، ابن الكونت ديتوري.
أما البقية، فلم يتم اختيارهم، فتم حبسهم في زاوية لإعدادهم كفريسة لاحقًا.
تُقسم طقوس تحويل البشر إلى مصاصي دماء إلى مرحلتين رئيسيتين.
المرحلة الأولى هي تقديم قربان دموي لأبانوس لإطلاق تعويذة قوية.
وكانت الطريقة بسيطة: مثلما حدث لكاسيون واتباعه في أكارون، يُسفك الدم في الأرض التي تسيطر عليها قوة أبانوس.
“يا روح الظلام اللامتناهية، أبانوس، نقدّم لك هذا!”
وفقًا للخطة، كان يجب مهاجمة المذبح عندما يركز الكاهن على التعاويذ، لكن كازار اكتفى بمراقبة المحيط ولم يندفع نحو المذبح.
“لتغمر أجسادهم وأرواحهم ببركة الليل الأبدي!”
عندما نطق بهذه الكلمات، اندفع مصاصو الدماء المحيطون بالحلقات السحرية فجأة وهاجموا الأسرى بوحشية.
“آآآه!”
“انقذوني!”
“لا!”
صرخات ودماء تتناثر في كل مكان كالنوافير.
راقب وال المشهد بعينين دامِيتين. كانت هذه جحيم مرسوم بأيدي الآخرين، لكنه كان مشهد الانتقام الذي حلم به. ارتجف جسده كله من شدة الانفعال، وأصبح التنفس صعبًا.
“هل انتهى الآن؟”
“لا، لا تزال الطقوس التي تهدف لتقديم الروح لأبانوس قائمة.”
كانت المرحلة الأخيرة لتحويل البشر إلى مصاصي دماء تُعرف باسم امتصاص الروح.
“ماذا لو رفض غوب تقديم روحه؟”
“حينها، لا انتقام ولا شيء؛ كل شيء سينتهي.”
ضحك كازار من وال الذي كان قلقًا على موت غوب دون أن يحصل على فرصة للانتقام.