495 - 10 دقائق
10 دقائق
▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬
اللَّهُم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَن ْ أَشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ
ترجمة: Arisu san
▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬
حينما لمح “هان فاي” قطة زجاج البحر في اللعبة الليلة الماضية، تسلل إليه شعورٌ مريب. لقد كانت تفتقر إلى أدنى رغبة في الحياة، بل كانت تتمنى الموت لتفرّ من العالم المشفّر. لم تكن تكترث بشيء، فاقدةً للاهتمام بكل ما يحيط بها، خالية من الأمل. وذلك أمرٌ مرعب.
استغرق “هان فاي” عشرين دقيقة ليصل إلى مكان سكن قطة زجاج البحر. كان حيًا قديماً، واقعاً بين المدينة العتيقة والمدينة الذكية. “الغرفة 1031″… وما إن حصل على العنوان، حتى انطلق مسرعًا إلى الحي.
“هل أنت أحد السكان؟ لم أرَك هنا من قبل!”، قال الحارس عند المدخل، وهو يوقفه.
رد “هان فاي” دون أن يبطئ خطاه: “أبحث عن صديقة تسكن في الغرفة 1031.”
تحرك بسرعة لم يستطع الحارسان مجاراتها.
“توقّف!” صاح أحد الحراس، ممسكًا بجهاز اللاسلكي. كان يثبت ناظريه على “هان فاي” خشية أن يفلت من نظره. “نحتاج إلى دعم! لدينا متسلّل!”
“كيف يبدو؟”
“ركض بسرعة! لم أتمكن من رؤيته جيدًا!”
دخل “هان فاي” المبنى رقم 1، وبدأ يتفحص أرقام الشقق بعينٍ حاسبة. لم يضيع لحظة، وسرعان ما وصل إلى الطابق الثالث. طرق الباب ونادى باسم “قطة زجاج البحر”، لكن لم يصدر أي جواب، فاشتد قلقه.
“كفّ عن الطرق!”، قالت جارة قطة زجاج البحر وهي تفتح الباب، امرأة في منتصف العمر تحمل عبوة رش. “الفتاة ليست في المنزل.”
“هل تعرفين أين ذهبت؟”
“لست متأكدة. منذ وفاة عائلتها، نادرًا ما تغادر الشقة. لكنني رأيتها هذا الصباح حين كنت أسقي الزرع على شرفتي، وقد أدهشني خروجها. كانت تمسك بهاتفها، لكنها بدت وكأنها لا تتلقى أي رد، وتحمل حقيبة مدرسية تحمل اسم ميتم، وتصرفاتها كانت غريبة.”
“حقيبة مدرسية باسم ميتم؟” استحضر “هان فاي” كلمات الفتاة الأخيرة في الفيديو. لقد أرادت الرحيل عن هذا العالم بطريقتها الخاصة، لإعادة “الهدية” التي منحها لها الميتم. وكانت ستبدأ من يأسها.
“الميتم الذي أنشأته شركة “صيدلية الخالد”!” قالها “هان فاي”، وانعطف ليسير في وجهة الحراس.
“عن من تبحث؟ يمكننا مساعدتك…”
“شكرًا.” وقبل أن يكمل الحارس حديثه، أمسكه “هان فاي” من ذراعه: “أرني تسجيلات المراقبة عند البوابة!”
كان الحارس يحاول فقط كسب الوقت، لكنه وجد نفسه يُسحب إلى غرفة الحراس. أما زملاؤه فظلوا واقفين مصدومين. قال الحارس: “لا تقلقوا، كنت حارس حي من قبل. لن أؤذيكم إلا إن رفضتم التعاون.” ثم وقف أمام الحواسيب، يتفحص التسجيلات ويتحكم بالأجهزة ببراعة فاقت الحراس أنفسهم.
بعد برهة، رآها. قطة زجاج البحر ظهرت في التسجيل قبل ساعة، تمشي وهي تحمل هاتفها، منحنية الرأس، وعلى ظهرها حقيبة مدرسية ممزقة.
“من كانت تكلم؟” حتى بأقصى تكبير، لم يتمكن من رؤية شاشة الهاتف، فتجاوز الأمر.
“شركة صيدلية الخالد بنت ميتمَين، كلاهما في شمال المدينة القديمة. وهي كانت تتجه نحو تلك الناحية.” خرج “هان فاي” من غرفة الحرس، بينما أقام الحراس حواجز وكأنهم يتصدّون لمجرم خطير. لكن “هان فاي” اكتفى بهزة رأس مهذّبة، وانطلق راكضًا.
استقلّ سيارة أجرة متجهًا نحو الميتم. ما زال يحتفظ بصورة خافتة عن المكان في ذاكرته.
“سيدي، هل يمكنك القيادة بسرعة أكثر؟” فكّر في أن يشتري سيارة، فالاعتماد على التكسي مزعج. وإذا كانت السيارة رفاهية، فدراجة نارية قد تفي بالغرض.
وبعد 15 دقيقة، وصل إلى الميتم. على الرغم من مرور السنين، بقي المكان على حاله، حتى إن تم تحديث المظهر الخارجي عدة مرات، إلا أن الداخل ظل على طبيعته. بدا أشبه بمستشفى أطفال أكثر منه ميتمًا.
دفع الأجرة وركض باتجاه المبنى، لكنه لم يصل بعد حين سمع جلبة على الجهة المقابلة من الشارع.
“أحدهم سيقفز! هناك فتاة على السطح!”
“اتصلوا بالشرطة بسرعة!” علت الأصوات بين الحشود، فرفع “هان فاي” رأسه ونظر إلى البناية المقابلة للميتم، وهي بناية من سبعة طوابق تعود لشركة “صيدلية الخالد”، بلا لافتة ولا هوية واضحة.
توجهت عيناه إلى السطح… كانت هي. قطة زجاج البحر، واقفة على الحافة، حقيبتها ما تزال على ظهرها، تتمايل مع الريح كأوراق الخريف.
“قطة زجاج البحر!” نادى عليها.
لقد رآى في حياته الكثير من محاولات الانتحار. البعض كان يبحث عن النجدة، محطَّمًا تحت قسوة الواقع، وهذا النوع يمكن إقناعه بالحياة. لكن النوع الآخر كان الأخطر: أولئك الذين خمدت مشاعرهم، وخططوا لموتهم آلاف المرات في عقولهم. أقنعوا أنفسهم بالبقاء مرارًا… حتى لم يعودوا قادرين على ذلك.
كانت “قطة زجاج البحر” من النوع الثاني.
طفولة معذّبة، تجارب غريبة، أُخذت إلى أماكن مجهولة حتى تلاشت ذاتها الأصلية. لعلها كانت لتواصل العيش في العتمة، لولا شعاع نور أخير… امرأة مسنّة احتضنتها، وجمعت شتات روحها بالحب والرعاية.
رغم أن شخصيتها لم تُشفى بالكامل، لكنها رُقّعت بما يكفي لتجد معنى للحياة. غير أن أقسى ما في هذه التجربة، أن هذا المعنى انهار مجددًا مع وفاة العجوز بالمرض.
لقد أحبّت تلك العجوز الفتاة بصدق، نسيت الهدف من التجربة، وأخذتها كحفيدة. وقبل أن تفارق الحياة، قالت لها الحقيقة… ربما فعلت ذلك بدافع الإنقاذ، أو لئلا تبقى الفتاة مخدوعة. مهما كان الدافع، فالفتاة فقدت كل شيء.
“افسحوا الطريق! ابتعدوا!” وصلت الشرطة، تلتها فرقة الإطفاء. صرير صفارات الإنذار قطع الصمت. نُصبت وسادة الأمان، ودخل رجال الإطفاء المبنى حاملين عُددهم.
خرج مدير المبنى، رجل بدين يتصبب عرقًا ويتحدث بعصبية للشرطة.
“لماذا تفعل فتاة جميلة كهذه أمرًا كهذا؟”
“ربما تعرّضت للخذلان… شباب اليوم ضعفاء نفسيًا.”
“احترس في كلامك. لا يبدو أنها تمزح. لا دمعة في وجهها، وعيناها… خاليتان من الحياة.”
“هل أنت طبيب لتقرأ كل هذا من عينيها؟”
وفي الشارع، انتشرت الهواتف لتصوير الحدث. بعضهم كان يقرّب العدسة ليظهر وجهها.
“هل ستقفز أم لا؟ سأتأخر على عملي.”
“سجلت كل هذا الوقت… لا أظنها ستنتحر حقًا.”
م.م(يولاد ال***)
“أعتمد على مشاهداتها لرفع نسب المشاهدة…” وبينما يتحدث أحدهم بشراهة، انطفأت شاشة هاتفه. التفت ليجد “هان فاي” أمامه، وقد وضع يده على الكاميرا.
قال “هان فاي” بصوت هادئٍ زَلزلَ الرجل: “أأصابك الجنون؟ إن كنت تترقب موتها بهذا الشغف، فاقفز أنت بدلاً عنها.” همّ الرجل بالرد، لكن أصدقاءه سحبوه بعيدًا، وقد أدركوا أن “هان فاي” ليس ممن يُستهان بهم.
وبعد أن رسخ وجوههم في ذاكرته، اندسّ بين الحشود ودخل المبنى. المصعد محجوزٌ للشرطة، فتوجّه إلى الدرج، يصعده بسرعة.
“انتظر! لا يمكنك الصعود!” أوقفه شرطي شاب.
سأل “هان فاي” عن مستجدات الوضع. وأثناء الحديث، نزل ضابطٌ مسنّ من السطح.
“ما الذي تفعله هنا؟ هل تواصلتُم مع عائلتها؟”
“إنها يتيمة، والعجوز التي تبنّتها توفيت مؤخرًا. أظن هذا سبب ما تفعله الآن.” أجاب الشرطي الشاب بأسى.
“إذن نحن عائلتها الآن. هذا أكثر لحظاتها هشاشة، وعلينا أن نكون السند.” نظر الضابط إلى السطح، حيث كانت شرطية تحاول التحدث مع الفتاة.
“الرياح قوية، انزلي لنتحدث معًا!” قالت الشرطية، لكن “قطة زجاج البحر” لم تُظهر أي رد فعل. كانت عيناها معلّقتين على الميتم المقابل، حيث ما يزال أطفالٌ مهجورون يعيشون، يعانون عاهات عقلية أو جسدية.
قال “هان فاي”: “كأنها تنتظر لحظة محددة.” ثم أمسك بذراع الشرطي: “هل تحقّقتم من ساعة وفاة جدتها؟ أكانت في الصباح أيضًا؟ كم تبقّى على تلك اللحظة؟”
الشرطي الشاب همّ بتجاهله، لكن الضابط العجوز التفت إليه فجأة.
“هان فاي؟ لم أتعرف عليك… لمَ أنت هنا؟”
“تعرفني؟” قال “هان فاي” باستغراب، “آه، ربما شاهدت أحد أفلامي؟”
“لا أشاهد الأفلام. لكن حين طاردنا “الفراشة”، عرض الضابط الأعلى صورتك، وطلبوا منا حمايتك.”
“أشكر قائدكم إذن.” اقترب “هان فاي”، وقال: “لقد رأيت هذه الفتاة من قبل، كانت تعيش في ذلك الميتم.”
“رأيتها؟” قال الضابط بذهول.
“لا وقت للتفاصيل. الفتاة ليست فقط منهارة نفسيًا، بل فقدت كل رغبة بالحياة. الكلام العادي لن يجدي، ولن تصغي.” نظر إلى ساعته. “ابحثوا عن وقت وفاة جدتها، أظنها تنتظر تلك اللحظة.”
“وجدناه. توفيت في المستشفى الساعة 10:34 صباحًا.”
“الساعة الآن 10:24… لدينا عشر دقائق فقط.” نظر “هان فاي” إلى الضابط بجانبه. “هل تسمحون لي بالحديث معها؟”
“عذرًا، لا يمكن ذلك. لا يُسمح إلا للمختصين بالحديث مع مَن ينوون الانتحار، وإلا قد تتدهور الأمور أكثر.” رفض الشرطي فورًا.
رجال الإطفاء كانوا على أهبة الاستعداد في الطابق السابع، لكن لا يزال هناك ارتفاع بينه وبين السطح.
على السطح، اقترب شرطي وشرطية بخطى بطيئة. وما إن اقتربا مسافة خمسة أمتار منها، حتى توقفا، إذ بدأ جسدها يميل للأمام. الوقت يمر، والوضع مأزوم.
وحين لم يتبقَّ سوى ثلاث دقائق على الساعة 10:34، اقتحم “هان فاي” السطح، مندفعًا لإنقاذ الفتاة… مخاطِرًا بكل شيء.
لو ماتت أثناء حديثه معها، فسمعته ستتحطم، وشركته السابقة ستجعله كبش فداء، وسيتدفق “المرتزقة الإنترنت” ليشوّهه أمام الرأي العام. ولهذا يتجنب الكثيرون التدخّل، فالكلمة والفعل قد يُساء فهمهما بسهولة.
لكن في تلك اللحظة، اختار “هان فاي” أن يتحرّك.
«أنا أعلم أين تقيم العجوز التي تبنّتك. لقد رأيتها، ويمكنني أن آخذك لتلتقي بها!»
تردّد صوت “هان فاي” في أرجاء السطح، ثم أضاف قائلًا:
«صوتكِ رائع بحق، وأنا واثق أنّ كثيرين في هذا العالم يشاطرونني هذا الرأي.»
عندها فقط، استدارت “قطة زجاج البحر” ببطء، بعدما كانت غارقة في صمتها، لا تُبالي بما حولها.
تلك كانت كلمات “هان فاي” يوم أعاد “قطة زجاج البحر” من العالم الغامض.
—