750 - راحة مستحقة (1)
ها قد مر وقت منذ آخر مرة رأيتكما فيها. كيف حالكما؟
ورغم ارتباكهما، دخلت إيفلين وكيرا العربة. وبما أن أويف كانت قد أرسلت رسالة مسبقاً إلى كيرا، لم تُفاجأ كثيراً، على عكس إيفلين التي حدّقت في أويف بدهشة.
“لماذا تقفين هكذا؟ ادخلي.”
لم تستفق إيفلين من شرودها إلا عندما سمعت كلمات كيرا. رفعت رأسها ونظرت إليهما، ثم عضّت شفتها السفلى قبل أن تدخل العربة.
وبمجرد أن جلست بارتياح، بدأت العربة بالتحرك.
“إلى أين نحن ذاهبون؟”
نظرت إيفلين حولها في حيرة.
فما زال عليها أن تلتقي بوالدها، و—
“لا تقلقي. سأعيدكِ إلى هنا. هناك فقط بعض الأمور التي أود التحدث عنها معكما.”
تلاشت الابتسامة على وجه آويف تدريجيًا وهي تنظر إليهما. عند رؤيتها على هذا النحو، هدأت كيرا وإيفلين.
وبينما كانت العربة تهتز عدة مرات أثناء سيرها، أسندت أويف رأسها إلى جانب العربة وهي تتحدث:
“ليس هناك الكثير من الأشخاص الذين أثق بهم في هذا العالم. أنتما الاثنتان بالذات… لا أثق بكما على الإطلاق.”
حدّقت كيرا وإيفلين في أويف بنظرات غريبة. هل جاءت لتخبرهما بعدم جدارتِهما بالثقة؟
قبل أن يتمكّن أيٌّ منهما من الاعتراض، تابعت أويف:
“…لقد قُتل والدي وأخي.”
ساد صمت ثقيل داخل العربة في تلك اللحظة.
فعلى الرغم من أن الجميع كانوا يعلمون بموت الإمبراطور والأمير، إلا أن سبب وفاتهما لم يُصرَّح به علناً. كثرت التكهنات، لكن العائلة المالكة لم تؤكد شيئاً على الإطلاق.
إيفلين وكيرا كانتا على دراية بذلك.
ورؤيتهما لأويف وهي تشاركهما الخبر جعلهما تلتزمان الصمت بينما بقي رأس أويف مستنداً إلى جانب العربة.
“أتعلمان ما هو أغرب ما في الأمر؟ وكأن لا أحد يكترث لكونهما قد قُتلا. كل ما يهم إخوتي غير الأشقاء هو العرش، وعمي حالياً مفقود. وبرغم كل محاولاتي للتحقيق في الأمر، أُقابَل بالرفض عند كل خطوة. الأمر أشبه بــ…”
توقفت آويف، وتحول تعبيرها إلى الكآبة وهي تستدير أخيرًا لتنظر إليهما.
”…وكأن العائلة المالكة بأكملها تحاول إخفاء سر موتهما.”
ساد الصمت التام داخل العربة منذ تلك اللحظة.
لم تنطق كيرا ولا إيفلين بكلمة، واكتفيتا بالتحديق في أويف.
“هناك احتمال كبير أن يكون أحد أفراد العائلة المالكة متورطاً في موتهما. لا…”
توقفت أويف مجدداً، وعيناها تضيقان.
“…من المرجّح جداً أن تكون العائلة المالكة بأكملها واقعة تحت سيطرة شخص ما.”
( بعد 750 فصل الان علمت)
⸻
كلانك-!
فتحت باب العربة، ومددت ظهري.
‘بصراحة، ليون محق. هذا الأمر غير مريح على الإطلاق.’
نظرت إلى داخل العربة فرأيت ليون مسنداً رأسه إلى النافذة، يحدّق بخواء في العالم الخارجي. كان وجهه شاحباً، وللحظةٍ خُيّل إليّ وكأن الألوان تغادر جسده.
فكرت في الحديث معه، لكنني عدلت عن ذلك وأغلقت الباب مباشرةً بعده.
كلانك!
كنت في الحقيقة مرهقاً للغاية من كل ما جرى.
جسدي ما زال يشعر بالإنهاك.
“عليّ أن أخصص وقتاً لأعالج إصاباتي بشكل صحيح.”
فمع أنني أستطيع التحرك والتصرف بلا مشاكل، إلا أن الجراح ما زالت تزعجني. كما أنني لا أستطيع استخدام قوتي الكاملة وأنا على هذه الحال.
“هل عليّ أن أرتاح…؟”
“عليك أن تفعل.”
تحدث ليون، وقد ظهر فجأة إلى جانبي.
شبح؟ متى…؟
“تبدو مرهقاً. عليك أن تأخذ بعض الوقت للاسترخاء.”
“همم.”
على الرغم من سماعي ذلك من ليون، إلا أن فكرة الراحة بدت غريبة بالنسبة لي. متى كانت آخر مرة حصلت فيها على قسط حقيقي من الراحة؟ حتى الآن، وبعد قليلٍ من النوم، كنت أخطط للعودة إلى التدريب. فبعد أن وصلت إلى الطبقة السابعة، كانت هناك الكثير من الأمور التي رغبت في تجربتها واختبارها.
كنت أريد بشكل خاص أن أرى المدى الكامل للقدرة المتطوّرة التي حصلت عليها من تطوّر “بيبل”.
فمع أنني استخدمتها قليلاً، إلا أن ذلك كان بعيداً عن أقصى إمكاناتها. لا يزال هناك الكثير.
كما أنني أردت أن أتدرّب على سحر اللعنة، فقد أهملته كثيراً. وهناك أيضاً ذلك الأسلوب الغريب في المبارزة الذي لمحتُه في ذاكرتي… وليس هذا فحسب، بل أردت أيضًا الحصول على فكرة أفضل عن كيفية إصلاح الخاتم.
معدل استهلاك المانا لدي أصبح أكبر بكثير مما كان عليه من قبل.
باختصار…
هناك الكثير من الأشياء التي أرغب في القيام بها.
‘فهل أستطيع حقاً أن أسمح لنفسي بالراحة’
الأخرى التي تثقل كاهلي. وضع دليلة . الكائنات الخارجية. تورين والسماء المقلوبة. والكتب التي تركها نويل وراءه.
لم أكن حقاً قادراً على أخذ قسط من الراحة حتى لو أردت ذلك.
“آخ.”
عبثتُ بشعري بضيق.
الأمور كانت حقاً مزعجة بالنسبة لي، أليس كذلك؟
“هيه.”
شعرت بشدٍّ على كتفي، فاستدرت لأرى ليون يحدّق بي بنظرة قلقة. وفي النهاية، هزّ رأسه.
“أنت تفكّر كثيراً. خذ قسطاً من الراحة الآن. إن لم ترتح، فستنهار في النهاية. ما الفائدة من فعل أي شيء إذا كان جسدك وعقلك سيتخليان عنك لاحقاً؟”
“لكن—”
“لقد فكرتُ في الأمر مسبقاً.”
“هم؟”
حوّل ليون انتباهه نحو القصر ثم إلى ما خلفه.
“…سنذهب إلى المدينة لاحقاً. سأريك شيئاً مذهلاً..”
بتنهيدة، قلت:
“حسناً.”
فركت مؤخرة رأسي.
“…سأستمع هذه المرة.”
دخلت القصر وتوجهت إلى غرفتي، ثم رميت نفسي على السرير.
فكرت في أخذ قسط من الراحة وتصفية ذهني قليلاً. وبالنظر للأمر، كان ليون محقاً. لم يكن بإمكاني أن أسمح لكل تلك المشاكل أن تبتلعني.
كان عليّ أن أعتني بعقلي وجسدي.
وهكذا…
قررت أن أرتاح.
لكن—
كلانك-!
فقط لأنني أردت الراحة، لم يكن هذا يعني أنني سأحصل عليها.
“كيف ما زلت على قيد الحياة؟ ألم يكن من المفترض أنك ميت؟”
رفعت رأسي وحدّقت بالشخص الواقف عند الباب. رمشت عدة مرات قبل أن أومئ برأسي.
“أوه، لقد مر وقت طويل.”
أسندت رأسي مجدداً على الوسادة وأغمضت عيني.
بانغ-!
ارتطم صوت قوي في الأرجاء.
على الأرجح أنه ضرب يده على الباب.
“هل تمزح معي؟”
“…لا. أنا فقط متعب.”
“متعب؟”
سمعت وقع خطوات تقترب. على الأغلب كان يتقدّم نحوي.
توقفت الخطوات في النهاية.
لقد أصبح قريباً مني.
“أخبرني ما الذي يحدث.”
كان يكاد يغلي غضباً.
بتنهيدة، قلت:
“هل علينا فعل هذا الآن؟”
قوبلت بالصمت…
وأخيراً، عندما فتحت عيني، وجدت زوجاً من العينين يحدقان بي من الأعلى مباشرة. كانت ملامح لينوس معقدة، ووجهه يبدو ممزقاً بين الغضب وشيء آخر.
عندما رأيت تعابيره، وجدت نفسي غير قادر على رفضه أكثر.
لقد ذكّرني كثيراً بنويل.
“حسناً.”
جلستُ ومسحت وجهي بيدي.
تماماً حين كنت أظن أنني سأنال بعض الراحة.
دفعت شعري إلى الخلف، ثم نظرت مجدداً إلى لينوس.
“ما الذي تريد أن تعرفه بالضبط؟”
“كل شيء.”
أجاب لينوس، وصوته بالكاد مقيّد.
“عمّا حدث. كيف ما زلتَ على قيد الحياة رغم أنه كان من المفترض أنك ميت؟ أين الأب، و…”
توقف لينوس، وعضّ على شفته وهو يخفض صوته إلى ما يشبه الهمس.
“و…؟”
أثار ذلك فضولي.
ما الذي كان على وشك قوله بالضبط؟
لكن في النهاية، ورغم فضولي، هزّ لينوس رأسه.
“لا بأس. فقط أخبرني بما حدث بالضبط. هل كان كل هذا مجرد مسرحية أعددتها مع الأب؟”
“همم.”
فكرت لبرهة، وأنا أحدّق مباشرة في لينوس قبل أن أومئ برأسي.
“نعم، يمكن القول ذلك.”
لم تكن هذه كذبة.
فكل هذا كان قد تم التخطيط له بالفعل بيني وبين نويل.
‘ما زلتُ أشعر بالقشعريرة وأنا أفكر كيف يشير إلى نويل بصفته “الأب”.’
لم يكن في الحقيقة “أبانا”…
“…أنت أكثر من يعرف كيف يتصرّف والدنا. إنه شخص يخطط لعشر خطوات مسبقاً دون أن يظهر ذلك على وجهه. نادراً ما يتصرف، لكن في كل مرة يفعل فيها، يكون هدفه أن يأخذ كل ما يستطيع. جشعه…”
“لا يُروى.”
أكمل لينوس كلماتي، وقد تلاشى بريق في عينيه وهو يرجع رأسه إلى الخلف ويمسك أسفل ذقنه.
“وبالنظر إلى كل شيء الآن، أستطيع أن أفهم لماذا تصرف الأب كما فعل. لقد حصلنا على أراضٍ أكثر من أي وقت مضى، ومع إنجازاتك الأخيرة، فلن يكون من المبالغة القول إن ممتلكاتنا أصبحت على بعد خطوة واحدة من مرتبة دوقية… وربما خطوتين.”
“…ليس تماماً.”
لم أستطع أن أجزم كيف كان موقعنا مقارنةً بالدوقيات في تلك اللحظة.
لم أكن قد رأيت القوة الكاملة لدوقية بعد. ومع ذلك، مما فهمته، لم نصل بعد إلى هذا المستوى. على الرغم من أن لدينا أراضي تضاهي الدوقية، إلا أننا كنا لا نزال أدنى عندما يتعلق الأمر بالبنية التحتية والقوة العسكرية.
أقوى شخص داخل العائلة كنت أنا على الأرجح.
في الدوقيات، على الأقل كان لديهم أكثر من مجرد عدد قليل من السحرة الكبار. بالإضافة إلى ذلك، كان لديهم جيش ضخم يتكوّن من فرسان وسحرة موهوبين للغاية. بصراحة، كنا سنتعرض للهزيمة إذا حاولنا مواجهتهم.
خاصة إذا قارنت نفسي بدوقية روزمبرغ.
دليلة ربما والد خطيبتي كانا كافيين للقضاء علينا تماماً.
“همم. ربما أنت محق.”
نظر لينوس حوله قبل أن يجلس. لا تزال تعابير الغضب على وجهه، والآن عندما نظرت بعناية، استطعت رؤية الهالات السوداء تحت عينيه.
من المحتمل أنه لم ينام لفترة طويلة.
لم أستطع لومه.
فمن المحتمل أنه اكتشف للتو أنني ما زلت على قيد الحياة.
وبما أنه كان يقضي معظم وقته في الأكاديمية، ولم أظهر نفسي إلا مرة واحدة من قبل، لم يكن غريباً أن يكتشف ذلك الآن فقط. خاصة بالنظر إلى الفوضى التي تسببت بها أثناء الطقس.
“ماذا عن الأب…؟ كيف حاله—”
“لا أعرف.”
أجبت بصدق.
نويل…
لم أكن أعرف أين هو، ماذا يفعل، أو كيف حاله.
على الرغم من كونه سامي وبالفعل خالداً من الناحية التقنية، إلا أنني لم أستطع إلا أن أشعر بالقلق.
فعلى الرغم من كل شيء، كان لا يزال أخي الصغير.
“ألا تعرف؟ إذن، هل هو….”
“كما قلت، لا أعرف.”
“لكن—”
“لقد أعطاني تعليماته فقط بشأن ما يجب أن أفعله. وأنا أقوم بتنفيذها حالياً. هذا كل ما كنت أفعله خلال الأشهر الماضية بينما كنت في الأكاديمية. في الواقع، لقد عدت للتو من الطقس. لم أحظ حتى بوقت كافٍ للنوم قبل أن تأتي هنا فجأة لتقاطعني.”
قبل أن أدرك، بدأت نبرتي تصعد. ربما كان ذلك نتيجة قلقي على نويل، وتراكم التعب عليّ. حاولت أن أتوقف، لكن لم أستطع.
كل شيء كان يتراكم عليّ في تلك اللحظة.
تغير وجه لينوس عند سماع كلماتي، وبدت تعابيره تتقلب بين الشعور بالذنب، والغضب، وشيء آخر. ومع ذلك، لم تتح له الفرصة للتحدث، إذ انفجر الباب فجأة.
كلانك!
ظهر ليون خلف الباب.
مسحت عيناه الرماديتان الغرفة قبل أن تتوقف أخيراً عند لينوس.
“توقيت ممتاز.”
حوّل انتباهه نحوي.
“…بما أنه هنا، ربما من الأفضل أن تنضم إلينا.”
“ها؟ أنضم إليكم؟” بدا لينوس مرتبكاً للغاية. “والأهم، أليس أنت أمير؟ ما الذي—”
“هذا ليس مهماً.”
قاطعه ليون وهو يستدير.
“سنذهب إلى المدينة. اليوم، سأريكما شيئاً مذهلاً.”
غادر مباشرة بعد ذلك، تاركاً لي ولينوس في حيرة تامة بينما تحدّقنا في بعضنا البعض.
“هل جنّ؟”
“…هكذا كان منذ وقت طويل.”