تجسدت من جديد كـ أبن الشريرة - 215 - قطع العلاقات (1)
أيقظني صوت سعالي الخاص من سباتٍ عميق.
كان الظلام يلفّ حواسي جميعها، بالكاد أملك القوة لأتحرّك.
“تمهّل.”
يدٌ لطيفة ساعدتني على رفع جذعي قبل أن أتحرّك قليلًا لأتكئ بظهري على شيءٍ ناعم، افترضت أنه سرير.
تفتحت عيناي ببطء وأنا أحدّق إلى السقف الأبيض البسيط.
ضوءٌ هادئ أنار الغرفة، وصوت الصفير المزعج تردّد في أذني.
“…آز.”
عند سماع الصوت، التفتُّ لأنظر إلى جانبي.
رأيت عددًا من الأشخاص يقفون هناك.
“هل تشعر بخير؟” سألت كريستينا بابتسامة خفيفة، جالسةً على الكرسي بجانب السرير.
ظلّ بصري معلّقًا عليها وأنا أومئ برفق، ثم حرّكت عيني متجاوزًا إياها.
كانت أڤريل وشيامال تقفان بالقرب من الحائط، بينما آشيلين وقفت خلف كريستينا مباشرة، تنظر إليّ بمشاعر متضاربة.
“…كم مضى؟” سألت وأنا أعيد بصري إلى كريستينا. “…كم من الوقت كنتُ نائمًا؟”
تنفست كريستينا بعمق قبل أن تجيب ببطء: “…أربعة وعشرون يومًا.”
أومأت برأسي بهدوء كردّ.
كنت أتوقع الأسوأ—شهرًا أو شهرين ربما—وبعد ما تحمّله جسدي من ضغط، كان بحدّ ذاته معجزة أنني استيقظت بهذه السرعة.
عدت أنظر إلى كريستينا؛ كانت إحدى يديها ملفوفة بضماد، ومثبتة بحمالة تتدلّى من كتفها.
“هل يدك بخير؟” سألتها وأنا أحدّق بذراعها المكسورة.
“لا تقلق بشأنها.” أجابت بصوتٍ مهدّئ. “سأكون بخير.”
أومأت ببطء ردًّا وأنا آخذ أنفاسًا عميقة.
كان خفقان قلبي يدوي في أذني، وشعور بالغثيان ينهش جسدي.
ورغم أنني لم أملك الإرادة لسماع الأمر، إلا أنني صلّبت قلبي.
وبينما أفتحت شفتي، همست بصوتٍ واهن: “…هل هناك أخبار عن… أوليفر؟”
نظرت كريستينا إليّ.
تحرّكت شفتاها عدة مرات لتردّ، لكن في كل مرة لم يخرج شيء.
وأخيرًا تماسكت وقالت: “…إنه مفقود… رغم مرور أسابيع، لم نعثر على جثته بعد.”
“…لماذا؟” سألتُها بخفوت وأنا أنظر إليها.
“…الجزيرة غرقت.” أجابت، ومدّت يدها لتضعها فوق يدي. “السيّدة إيزميراي أنقذت كل من كان حيًّا لكنها لم تكترث بالأموات.”
“…أفهم.” همستُ بضعف، وأنا أشعر بأن قوتي تخور من جسدي.
أرخيت جسدي أكثر لأجعل نفسي أكثر راحة قليلًا.
“…وماذا عن آليا؟” تمتمت وأنا أغمض عيني برفق. “…هل هناك أخبار عن جثتها؟”
“…لا.” أجابت كريستينا، وصوتها يتردّد في رأسي. “…لا توجد أي آثار لها.”
صمتُّ وأنا أومئ برأسي ببطء.
لقد حدث الكثير في فترة قصيرة، وبصراحة، لم أعد قادرًا حتى على التفكير بوضوح.
…ربما كنت فقط أحاول الهروب من الواقع.
لكن في كل الأحوال، اخترت أن أبقى صامتًا لبعض الوقت.
“…آزاريا.” سمعت صوت أختي يتردّد في الغرفة.
“…..”
لم أجب وأبقيت فمي مغلقًا.
“…ألثيا زارتك عدة مرات.” قالت، وصوتها يرتجف كما لو كانت تكبح دموعها. “…قالت الكثير من الأشياء… أشياء سيئة.”
“…..”
أختها ماتت.
كان من الطبيعي أن تنفجر غضبًا.
ولذلك، رغم أن—
“…قالت شيئًا عن موتك المبكر.” انفتحت عيناي فجأة وأنا أستدير لأنظر إليها. “…قالت إنك لن تعيش طويلًا.”
“آه…” (تنهد)
تنهدتُ بهدوء وأنا أفرك صدغَيَّ.
لم أُرِد أن يحدث هذا، أبدًا.
فتحت عيني وحدّقت نحو الطاولة بجانبي.
مددت يدي وأخذت الكأس المملوءة بالماء.
لكن حين قربته مني، انسكب الماء على السرير.
وقبل أن أستوعب الأمر، ارتطم الكأس بالجدار وتحطم إلى شظايا.
ارتجفوا جميعًا من ردّة فعلي، لكنني لم أكترث مطلقًا.
“هل يمكنكم المغادرة؟” همست قبل أن ينبس أحدهم بكلمة.
“آزاريا—.”
“أنا لا أطلب، أڤريل.” قاطعتُها مجددًا وأغمضت عيني. “…اخرجوا جميعكم.”
“آز…”
“أقسم، إن لم تخرجوا، فسوف أخرج بنفسي.” قلت بحدّة حين سمعت صوت آشيلين.
سكون ثقيل خيّم على الغرفة وهم واقفون في أماكنهم.
ثم ترددت أصوات خطواتهم، ينسحبون واحدًا تلو الآخر.
والآن، لم يبقَ في الغرفة سوى شخصين.
“كريستينا—.”
“لن أطلب شيئًا.” همست، مشدّدة قبضتها على يدي، وصوتها متوسّل: “…أرجوك، دعني فقط أبقى إلى جانبك.”
“…”
تمدّدت بلا حراك ردًّا عليها، مرهقًا جدًا لأجادل، ومرهقًا جدًا لأبعدها.
تركتها، كما أرادت، تجلس إلى جواري.
“…لورين أرادت أن تراك.” قالت كريستينا بهدوء، مما جعلني أفتح عيني بلطف. “…أرادت أن تتحدث معك لآخر مرّة—.”
“لا.” قاطعتها، محركًا جذعي لأجعل ساقي تتدلّى من حافة السرير. “…لتتعفّن حياتها بأكملها؛ لا يهمّني.”
“…أفهم.” أجابت كريستينا وهي تهز رأسها.
لم تقل شيئًا، ولم تحاول أن تحكم عليّ أو تصلح كلامي.
“…أتذكرين الخالة بيلي، صحيح؟” سألتها بخفوت وأنا أحدّق فيها، متوقعًا نصف التوقع أن تجيب بالنفي.
“…أتذكر.” لكنها أومأت موافقة. “…أتذكرها.”
“…إذًا لم يكن كل شيء زائفًا، ها؟” تمتمت لنفسي وأنا أضع كفّي على السرير. “…كانت مجرد ذكرياتي.”
اكتفت كريستينا بالنظر إليّ طويلًا قبل أن تسأل برفق: “…ماذا فعلت بكِ؟”
“…بل ماذا لم تفعل؟” أجبت بابتسامة ساخرة خافتة.
“…”
“لقد قتلت طفولتي.” همست وأنا أضع قدمي على الأرض. “…تلك العاهرة وضعتها تحت قدميها وسحقتها، قتلت طفولتي.”
أدرت قدمي على الأرض كما لو كنت أسحق حشرة، وابتسمت: “…قتلت سعادة طفلٍ في العاشرة، لتضمن أن يعيش عمرًا كاملًا من الصدمات.”
…كنت غبيًا.
كنت غبيًا حين صدقت أنها أحبّتني حقًا.
كان ذهني مغشّى، ولم أُدرِك الحقيقة إلا عندما نلت بركة إل.
…كل ما حدث.
كل ما كان خطأً في حياتي كان دائمًا مرتبطًا بها بشكلٍ ما.
وفاة والدة آشيلين، الحادثة مع شاين، خطفي، وأمور أخرى كثيرة—كانت هناك، ومع ذلك لم تنقذني قط.
لم تكن سوى دمية تتحكم بالخيوط، تتأكد أنني أمشي وأتحرك وأتصرف كما أرادت هي بالضبط.
ربما سنوات تأثيرها عليّ صنعت مني ذلك الفتى الغبي الذي باع روحه للشيطان.
“…هل أنت بخير؟” صدى صوت كريستينا جعلني أرفع بصري إليها.
“ن-نعم.” أجبت بابتسامة صغيرة، “أنا بخير… أنا دائمًا بخير.”
…هل كان كذبي واضحًا جدًا؟
نظرت إليّ بقلق، وشفتيها تتحركان مرات كثيرة بحثًا عن الكلمات المناسبة.
“تعلمين، لم يكن مقدّرًا لي أن ألتقي آشيلين.” قلت بابتسامة حزينة وأنا أحدّق في الفراغ.
“…في أحد الأيام، أخذتني الخالة بيلي إلى الخارج عشوائيًا، وبصدفة غريبة قابلتُ والدتها… انتحرت أمام عينيّ، تاركةً وراءها ورقة لابنتها.”
رغم أنني كنت في الخامسة حينها، إلا أنني ما زلت أتذكر تلك اللحظة بوضوح.
أتذكر كم كنت خائفًا ومرعوبًا.
وحتى الآن، لا أفهم ما حدث في ذلك اليوم بالضبط، لكنه لم يكن صدفة قط.
“وكذلك الحال مع آريانيل.” تابعت وأنا أغوص في التفكير. “…أخذتني فجأة إلى القصر الملكي، وهناك وجدت فتاةً تبكي مختبئة في زاوية… شجعتني على مساعدتها…”
تلاشى صوتي شيئًا فشيئًا وأنا أغرق في التفكير العميق.
…آه.
الأمر بات منطقيًا الآن.
…منطقيًا جدًا.
صوت بكاءٍ مكتوم أعادني إلى الواقع، فالتفتُّ إلى كريستينا.
“…لماذا تبكين؟” سألتها بعبوس بينما دموعها تنهمر بلا توقف. “…أنا بخير؛ لا تبكي.”
“…أنا آسفة.” همست وهي تنهض من مقعدها ببطء.
“عمّ تعتذرين؟” سألتها، رافعًا بصري إليها. “…لا شيء هنا ذنبك…”
لكن كلماتي تلاشت تدريجيًا حين لامست يدها رأسي برفق، وجذبتني إليها أقرب.
“…لا بأس.” همست وسط نشيجها. “كل شيء سيكون بخير.”
تحركت لا إراديًا، ويداي تطوقان خصرها بلطف.
“الجميع في هذا العالم أنانيون، كريستي.” تمتمت بضعف وأنا ألصق رأسي بمعدتها. “…لا أحد يهتم لأمري فعلًا، لا أحد.”
“هيه، لا تقل حماقات، أنا هنا، ألا تتذكر؟” صوتها المهدّئ تسلّل إلى أذني، يذيبني. “…لن أتركك أبدًا، مهما حدث.”
“…لا أريد الخروج.” تمتمتُ وأنا أشعر بجفوني تثقل. “…دعيني أبقى هنا معكِ، أرجوك.”
“يمكنك أن تبقى هنا.” أجابت وهي تربت على رأسي بحنان. “…ابقَ ما شئت، لن يجرؤ أحد على إزعاجك.”
تلك المشاعر، والتوتر الذي ظلّ يتراكم داخلي طوال هذه المدة، ذاب تدريجيًا.
تسللت الدموع من عيني.
بكيت.
بكيت، واعدًا نفسي أن تكون هذه آخر مرة أبكي فيها.
لن أبكي مجددًا في حياتي، أبدًا.
(م.م : اهو تطور)