6 - آزاريا نواه الجَنَّة (4)
عاد الضباب يغشى بصري، وتبدّل المشهد من جديد.
وجدت نفسي راكعًا على ركبتي، أحدق بعينين فارغتين في جسد مثقوب بسكين حاد استقر في بطنه.
“هاه؟”
استغرقني الأمر برهة لأدرك أنني أرى المشهد من خلال عيني عزريا.
“هه… هه…”
ولم تمضِ ثوانٍ حتى اجتاحتني مشاعر عزريا دفعة واحدة.
ألمه، حزنه، إنكاره، غضبه، عجزه — كل تلك الأحاسيس اخترقت روحي، وأفقدتني القدرة على التفكير.
“أ-أخي…” خرج صوت طفولي مرتجف من فمي، بينما كانت يداي الصغيرتان تهزان الجسد المستلقي أمامي بلطف.
“ا-استيقظ… أ-أخي…” غشيت الدموع عينيّ، وحجبت رؤيتي.
“و…عِد…” همس ضعيف انساب من بين شفتيه.
“أخي!” أسرعت ألصق أذني بوجهه، أحاول التقاط كلماته.
“و…عِدني…أن…تحميها…” قالها بصوت متلاشي، ضعيف، قبل أن يتم عبارته.
“أ-أعدك… هاك… أ-أعدك… هاك…” خرج صوتي المرتجف، والدموع تنهمر على وجنتي.
“سأ…ترك…الباقي…لك…عز…”
ومع ابتسامة هادئة، نطق كلماته الأخيرة، ثم توقفت أنفاسه.
“…هاك…هاك…”
جلست هناك، أبكي بمرارة، ففقدان من نحب كان أقسى من أن يتحمله قلب طفل.
بام!
قبل أن تهدأ شهقاتي، انفتح الباب بقوة، واقتحم رجال بثياب سوداء الغرفة، يتلفتون بجنون كأنهم يبحثون عن أحد.
“سأحميها… أعدك…”
تمتمت بين دموعي، ونهضت واقفًا أنظر إليهم بجمود.
“خذوه معنا، خير من العودة خالي الوفاض،” قال قائدهم، وقبل أن أستوعب كلماته، شعرت بضربة على مؤخرة رأسي، وغرقت في ظلام الوعي.
بيب… بيب…
عاد إليّ وعيي الضبابي مع صوت آلة ينبض في الأجواء.
“آهغ…”
رأسي ينبض بألم أشبه بفأس يشق جذع شجرة، وكأن الألم قد يفتك بي.
قعقعة…
حين حاولت تحريك جسدي، دوّى صوت سلاسل معدنية، فأفقت فجأة، ونظرت حولي بذهول.
كنت في غرفة مطلية بالسواد الكامل—الأرضية، الجدران، والسقف.
وفي مركزها، أنا، مقيد بالسلاسل.
“هل هذا حلم آخر؟”
تساءلت، وجدت نفسي لا في حمام، بل في حلم آخر، أقرب إلى ذكرى.
قعقعة…
دوّى صوت السلاسل من جديد، والمشهد ازداد وضوحًا.
“الجو… بارد.”
ارتجفت من البرد الذي تسلل إلى نخاعي. كان قارسًا حد أنني حاولت تغطية جسدي غريزيًا، لكن السلاسل منعتني.
أسناني اصطكت، وأطرافي ارتجفت بعنف.
بيب… بيب…
استمر صوت الجهاز بالخلفية، ونظرت إلى الأسفل.
اكتشفت أنني عارٍ تمامًا، بلا قطعة قماش تسترني.
“اختبار… اختبار…”
صوت أنثوي تردد، رفعت رأسي أبحث عن مصدره.
“درجة حرارة الغرفة الحالية: صفر مئوي.”
دوّى صوتها ببرود في المكان، وفهمت سبب الصقيع.
“اليوم الأول، التجربة الأولى: الوقت اللازم لانهيار جسد العينة تحت البرد القارس.”
أدركت الآن ما يحدث.
هذا هو المختبر السري المذكور في اللعبة.
الحدث الذي شكّل عزريا كما عرفته.
هنا، حيث ذاق عزريا العذاب طيلة ثلاثة أشهر.
والآن، سأعيش ذكرياته كلها.
“بعد ساعة، وُجد أن البرد غير كافٍ. تغيير درجة الحرارة إلى -8 مئوية.”
هبطت الحرارة، وبدأت أطرافي تخدر.
رويدًا رويدًا، اجتاح البرد جسدي وجمّد دمي.
“آآه…”
كان الإحساس بتجمّد دمي وأنا واعٍ مريعًا، فصدر عني أنين يشبه النحيب.
بدأت عروقي الزرقاء تبرز في كل جسدي، وجلدي ينتفخ بفعل التجمد.
“لقد… حافظت… على… وعدي…”
همست بصوتي الطفولي، فيما بدأ وعيي يتلاشى من جديد.
“آآه…”
عاد إليّ وعيي وسط خفقان مألوف في رأسي، وتألّمت.
فتحت عينيّ المثقلتين، أستعرض الغرفة.
كنت على كرسي، والسلاسل تلفّني من كل اتجاه، تثبّت يديّ وقدمي.
“هل استعدت وعيك؟” رفعت نظري، جاءني صوت رجل.
بام!
حاولت التملّص من السلاسل، أحدّق في وجهه.
شعر بني غامق، وعينان بلون مماثل—اللعين الذي تسبّب في كل ما عانيته.
“روّق أعصابك، لا تتسرع،” قال بينما يتجه نحو الطاولة، ويأخذ حقنة ذات إبرة طويلة.
“لقد مضى نصف شهر منذ عرفتك. تملك شجاعة مذهلة، صغيري. نجوت من التجميد، والعظام المكسورة، والجلد الممزق، وما زلت صامدًا.”
ملأ الحقنة بسائل شفاف، وتابع مبتسمًا.
“إنها مادة كيميائية ستطبخك من الداخل، بدرجة تصل إلى 160 مئوية.”
تأكد من الحقنة، ثم اقترب بها من عنقي.
“اليوم الخامس عشر، التجربة الثامنة والأربعون: الوقت اللازم لانهيار الجسد تحت الحرارة القصوى.”
“آآه…”
غرست الإبرة في رقبتي، وضخ السائل دفعة واحدة، فأطلقت أنينًا منخفضًا.
“ههف… ههف…”
بدأ تنفسي يضطرب، وجسدي يشتعل نارًا من الداخل.
“آآه… آآه…”
أنين وحش جريح، وأنا أشعر بدمي يغلي.
قبضت على أطراف الكرسي، وأغمضت عيني.
بدأ جلدي يحمرّ تدريجيًا، علامة على غليان الدم.
“آآآغ…”
وصل الدم المغلي إلى رأسي، أحرق دماغي، وخدر كل حواسي.
“آآه…”
أنين أخير… وسقطت في غيبوبة.
“اليوم العشرون، التجربة الرابعة والخمسون: الوقت اللازم…”
“اليوم الثلاثون، التجربة الرابعة والتسعون: الوقت اللازم…”
أيام متتالية في الأحلام…
استرجعت كل ذكريات عزريا، واحدة تلو الأخرى، وانغرست في ذهني كما لو كانت حياتي.
من لحظات أسره في المختبر، إلى لحظات الفرح النادرة مع أحبّائه.
أحيانًا حلوة، وأحيانًا مرّة، عشتها كأنها لي.
ليلة واحدة كانت كافية لأحيا كل ذلك.
وعندما أشرقت الشمس في اليوم التالي…
3
كان عقلي قد تحطّم.