4 - آزاريا نواه الجَنَّة (2)
“أين أنا؟”
دوّى صوت صراخي الحاد في أرجاء الغرفة، وبينما أقبض على ضلعي المكسور، جلست على ركبتيّ أتلفت حولي في ذهول.
“أين أنا؟”
استمر الألم النابض في ضلوعي يهاجمني بلا رحمة، موجة تلو الأخرى، وكأن جسدي كله يرفض وجودي.
بدأ بصري يتشوّش، وغمرني شعور ثقيل بالنُعاس.
“لا…” عضضت شفتي السفلى حتى سال الدم منها، وتمتمت وأنا أقاوم غريزة الانهيار.
“آه…”
جمعت ما تبقى لديّ من قوة، ونهضت مستندًا إلى السرير. كانت ركبتيّ ترتجفان، بالكاد تحملانني.
“هف… هف…”
أصبحت أنفاسي ضحلة، وبدأ رأسي يدور بجنون. استيقظت من دوارٍ قصير وأنا ألهث بشدة.
تحطم…
“آه…”
اصطدمت بالطاولة أثناء توجهي نحو الجانب الآخر من الغرفة، حيث بدا أن هناك حمامًا.
تبعثرت الأشياء وسقط بعضها أرضًا، وسمعت صوت الزجاج يتناثر، لكنني تجاهلت كل ذلك.
أعرج متكئًا بيدٍ على أضلعي المؤلمة، وبالأخرى أقبض على مقبض الباب.
نقرة…
انفتح باب الحمام، فتقدمت إليه متكئًا على إطار الباب.
بدأ قلبي ينبض بعنف، وعرقٌ بارد التصق بجسدي. بعينين ضبابيتين، تأملت المكان من حولي.
كان الحمام فخمًا ونظيفًا على نحوٍ مُبالغ، لكن بصري انشدّ فورًا نحو المرآة المعلّقة على الجدار.
متجاهلًا الألم، خطوت نحو المرآة، وقبل أن أدرك، كنت واقفًا أمامها.
“لا، لا، لا، لا!”
في البداية، انتابني الذعر حين رأيت انعكاس وجهي… ثم جاء الإنكار.
إنكارٌ أن كل هذا واقع. أن ما أراه مجرد كابوسٍ سخيف صنعه عقلي المرهق.
“نعم، لا بد أنه كابوس.” تمتمتُ، وأنا أمسك رأسي بكلتا يديّ.
لطالما رافقتني الكوابيس، فربما كان هذا مجرد واحدٍ آخر.
“هاهاها…”
دوّى ضحكٌ مجوّف داخل الحمام، بينما كنت أحدق في المرآة.
“من أحاول خداعه؟ كيف أراه في المرآة؟ لا بد أنها مجرد هلوسة.” تمتمتُ، أحدق في وجه شخصٍ أكرهه بشدة.
“آه…”
لكن وكأن الواقع أراد أن يصفعني، عاود الألم النابض هجومه، فانحنيتُ ممسكًا بضلوعي.
خضت آلاف الكوابيس، ولم أشعر قطّ بالألم فيها.
“لا! لا! لاااا!!”
ركعت على ركبتيّ، تمتماتي تحولت تدريجيًا إلى صراخ، دون أن أعي ذلك. الواقع كان ينقضّ عليّ.
فراغٌ غريب تغلغل في داخلي، وأنا أحاول أن أفهم ما يحدث.
“انتظر!.. هف… انتظر!!.. هف… انتظر!!”
تمسكتُ بحافة المغسلة ونهضت مجددًا، أحدّق في المرآة.
شعرٌ أرجواني طويل يلامس رقبتي، وعينان بنفسجيتان محمرّتان بفعل الألم، ووجهٌ شاحب كأن الموت يهمس في أذني.
وجهٌ مألوف… مألوف أكثر مما ينبغي.
الوجه ذاته الذي رأيته مرارًا في تلك اللعبة.
الوجه الذي كان دومًا يبتسم ابتسامة شريرة ملتوية، لكنه الآن يرمقني بذهولٍ وارتباك.
“لا يمكن أن يحدث هذا! لا يمكن!”
رددت كمن فقد توازنه، وأنا أحدق في “ذاتي” في المرآة.
“لماذا هو هنا؟” تساؤلاتي انفجرت مع عودة الوعي.
لماذا أنا هنا؟
ما الذي يحدث بحق الجحيم؟
ما هذا المكان؟
“آآآآآآه… ما الذي يحدث؟!”
تحطم…
اصطدمت قبضتي بالمرآة، وتحطم زجاجها بصوتٍ حاد.
رن…رن…
تناثرت شظايا الزجاج على الأرض.
“هف… هف…”
تنقيط… تنقيط…
تساقط الدم من يدي المُصابة، وصدى أنفاسي المتقطعة ملأ الحمام.
“هاهاهاها…”
ضحكت، ضحكة مجنونة… مضطربة… لكنها صادقة.
كنت أضحك من سخرية الموقف، ومن نفسي.
“اهدأ… اهدأ…”
همستُ، وأنا أصفع خديّ بخفة.
كل ما عليّ فعله هو التفكير بهدوء، سأجد حلًا… لا بد أن هناك تفسيرًا.
أنا فقط بحاجة إلى أن أهدأ.
أهدأ.
“وكيف بحق الجحيم يُفترض بي أن أهدأ؟!”
بام…
صرخت بصوتٍ لا يُشبه صوتي، وضربت الحوض بقبضتي.
بام…
ضربته مجددًا بكلتا يديّ. الألم لا يزيدني إلا يقينًا أن ما يحدث حقيقي. لا مفر.
بام…
تحطم… تشقق…
ضربت الحوض بقوة حتى بدأ يتهاوى على الأرض.
“آه…”
وفي اللحظة التالية، ضربني ألمٌ مرير في رأسي، وكانت قبضتي منتفختين، ممزقتي الجلد، والدم يسيل منهما.
“آآخ…”
متأوهًا، جلست فوق شظايا الزجاج والحوض المحطم.
أسندت ظهري إلى الجدار، وتحسست أضلعي التي عادت لتؤلمني.
“أريد أن أراها…” تمتمت بشوقٍ مفاجئ، رغبةً جارفة في رؤيتها مجددًا.
“انتظر… ما اسمها؟” لم تمر ثانية حتى اكتشفت أنني لا أتذكر اسمها.
تملكني الذعر. كيف أنسى اسم المرأة التي أحببتها؟
“ذكرياتي… ذكرياتي…” أغمضت عينيّ بقوة، أحاول استرجاعها، تلك اللحظات التي جمعتني بها.
لكنني ارتكبت خطأ.
الذكريات التي أبحث عنها لم تكن لي.
كإبرة ثقبت بالونًا ممتلئًا، بدأت ذكريات لا تخصني تتدفق بعنف إلى ذهني.
الذكريات السعيدة والحزينة لعزريا نوح الجَنَّة اجتاحت كياني، وها هو كابوسي يبدأ من جديد.