125 - الحرمان العاطفي
الساحرة المجنونة
فينيشا.
كان هذا في عصرٍ لم يُطلق عليها فيه ذلك الاسم بعد.
كانت تتدحرج وسط شظايا السماء التي انسكبت إلى العالم المخفي.
الروح التي احتوت فينيشا بالكاد استطاعت حمايتها.
داخل أحضان الروح، كانت تمسك بقلادة بإحكام.
شعرت بضيق في صدرها.
وعقلها كان في اضطراب.
ذكريات ظنّت أنها لن تستعيدها أبدًا—
قطع بعيدة، منسية منذ زمن بعيد، اجتاحت عقلها فجأة.
’ما الذي… يحدث لي؟‘
التيار الجارف من الذكريات الممزقة تركها عاجزة عن التفكير بوضوح.
ربما لهذا السبب، أخذت الذكريات تمر أمام عينيها كأنها عرض بانورامي.
طفولة تخلى عنها والداها.
كان هناك شيء قاله كلٌّ من أمها وأبيها لها.
「لم يكن علينا أن ننجبك أبداً.」
كلمات تمنت لو أنها لم تولد أصلًا.
ورغم أنها سمعتها وهي طفلة صغيرة جدًا، فقد انغرست في ذاكرتها بوضوح شديد.
عندما بلغت السادسة، تخلى عنها والداها.
في عمرٍ كان من المفترض أن تتشكل فيه الروابط، طُردت من قبل أولئك الذين كانوا عالمها كله.
لم يتبقَّ لها شيء.
「لماذا أنتِ هنا؟」
جائعة، عطشى، على شفير الموت—
حينها ظهرت امرأة أمامها.
معلمتها وأمها بالتبني.
ماريسا.
ماريسا أحبت فينيشا أكثر من أي أحد.
وكان ذلك حبًا لم تعرفه في حياتها من قبل.
لكن فينيشا كانت قد فقدت كل شيء مرةً بالفعل
ونتيجة لذلك، أصبحت مرتبطة بماريسا بشكل مفرط.
’لا أريد أن أتخلى عنها أبدًا…‘
ملأت بكل قوتها ذلك الفراغ العاطفي الذي لم يمتلئ يومًا في حياتها—
ماريسا وحدها استطاعت ملأه، وكان هوس فينيشا بها حتميًا.
ولذلك، درست بجنون كل ما علّمَتها إياه من السحر.
لحسن الحظ، كانت فينيشا موهوبة، وكانت ماريسا تمدحها في كل مرة.
لأول مرة، شعرت فينيشا أن فراغها الداخلي يُملأ.
’إذن… هكذا يكون الشعور بالسعادة.‘
لكن ذات يوم، جلبت ماريسا طفلين آخرين إلى البيت.
طفلان أصغر من فينيشا.
كلاهما كان متروكًا في الشوارع.
فتى وفتاة في نفس العمر.
كان اسم الفتى غرانتوني، والفتاة موسيكا.
’لماذا جلبت المعلمة أطفالًا آخرين غيري؟… ألم أكن كافية؟‘
في البداية، لم ترحب فينيشا بوجودهما.
فقد كان من الصعب أصلًا احتكار حب ماريسا، والآن عليها أن تشاركه.
’يجب أن أتحمل.‘
لكن لم تستطع إظهار مشاعرها.
كانت تعرف أن ماريسا لن توافق.
نشأت فينيشا وغرانتوني وموسيكا معًا.
ومع الوقت، اكتشفت ماريسا أن الاثنين يملكان موهبة استثنائية أيضًا كـ”مستدعي أرواح”.
فبدأت تدربهما بدورهما.
ورغم أن غرانتوني كان ماهرًا بلا شك، إلا أن موسيكا كانت الموهبة الحقيقية.
حتى فينيشا لم تستطع مقارنتها بموهبتها الفطرية.
وبسبب ذلك، كثيرًا ما انتهى الأمر بماريسا وهي تمدح موسيكا أكثر—دون قصد.
“أنتِ مذهلة يا موسيكا! موهبتك من بين الأعظم في العالم.
”
“ههههه هذا كله بفضل تعاليمك يا معلمة!”
موسيكا كانت طفلة مشرقة بشكل لا يُصدق.
حيثما ذهبت، كان حضورها يشع نورًا.
في البداية، لم تحبها فينيشا.
فبالنسبة لها، كانت موسيكا لصّةً وقحة تسرق حب ماريسا.
لكن موسيكا كانت طيبة.
“فينيشا! أختي الكبيرة!”
كلما رأت فينيشا، كانت تلوح بحماس وتركض نحوها.
في البداية، وجدت فينيشا وجودها مزعجًا وحاولت إبقاء المسافة.
لكن موسيكا لم تفهم معنى المسافة.
كلما وجدت شيئًا ممتعًا، كانت تدعو فينيشا بحماس للانضمام إليها.
ورغم أن فينيشا لم تحبها كثيرًا في البداية، إلا أنها لم تستطع رفضها.
…
ليلة شتوية قاسية، مثلجة—
كانت ماريسا مسافرة، وفينيشا مسؤولة عن تحضير العشاء.
وأثناء شرائها للمكونات، شُغلت وعادت متأخرة.
فهي، رغم كونها أكبر من غرانتوني وموسيكا، كانت ما تزال صغيرة وفضولية.
لكن لم يكن ذلك أمرًا جللًا.
الشوارع مضاءة، والناس موجودون.
المشكلة الوحيدة كانت الرياح الشتوية القاسية.
ارتجفت فينيشا وأسرعت بخطواتها.
وهنا، لمحت وجهًا مألوفًا.
موسيكا الصغيرة.
كانت واقفة في الثلج، مرتجفة، تدفئ يديها أمام مصباح.
اتسعت عينا فينيشا وركضت نحوها.
“موسيكا! ماذا تفعلين هنا؟”
“كنتُ في انتظاركِ يا أختي الكبيرة. إنه مخيف أن أمشي وحدي ليلًا.”
ابتسمت موسيكا ببراءة وأمسكت يدها بأصابع مثلجة.
“كنتُ أحاول تدفئة يدي بالنفخ عليها…”
كان أنفها محمرًّا من البرد، وخداها متوردين.
“لماذا انتظرتِني؟”
“لأني أردتُ أن أراكِ.”
’انتظرتني في هذا البرد القارس… فقط لأنها أرادت أن تراني؟‘
لم تفهم فينيشا تمامًا، لكنها أسرعت بها إلى البيت.
خافت أن تصاب بالبرد، فتلومها ماريسا.
وعندما وصلوا، كان غرانتوني موجودًا.
على عكس موسيكا المرحة، كان أكثر تحفظًا.
لكنه أشعل الموقد وجهز ماءً ساخنًا.
“أختي، هذه بطانية!”
جلست فينيشا أمام النار، فجاءت موسيكا مسرعة ببطانية.
لفتها حول فينيشا، ثم جلست بجانبها وغطت نفسها بالبطانية نفسها.
“هكذا أدفأ كثيرًا!”
وعندها، اقترب غرانتوني بدوره ليلتحف بها معهم.
’آه… هذا هو الحب غير المشروط.‘
في تلك اللحظة، أدركت فينيشا.
هؤلاء الأطفال يمنحونها حبًا.
وكان ذلك اليوم هو اللحظة التي قبلت فيها غرانتوني وموسيكا حقًا.
لكنه كان أيضًا بداية مأساة أخرى.
…
مرت السنوات، وموهبة موسيكا ازدادت بروزًا.
فقضت ماريسا وقتًا أطول معها.
’أريد أن أدعمها… لكن…‘
في الداخل، أرادت فينيشا دعمها.
لكن الطفلة التي بداخلها صرخت:
’سأُهمل مجددًا… سأُترك وحدي…‘
ماريسا أحبت فينيشا حقًا.
لكن قلبها كان حفرة سوداء.
مهما صُب فيه من حب، كان يتسرب.
’لا بد أن هذه المشاعر جزء من النمو… حين أصبح راشدة ستزول. سيختفي هذا الحسد القبيح.‘
لكن القلق ظل يخنقها.
…
وفي يومٍ ما، حين فتحت “العالم الآخر” محاولةً رفع مكانتها كساحرة أرواح رغم عدم امتلاكها المهارة الكافية—
ارتكبت خطأ لا رجعة فيه.
الكائن المسخ لذي كان ينتظر من يفتح “العالم الآخر”، زرع بذرةً داخلها.
مُسحت كل ذكرياتها عن تلك اللحظة.
البذرة محتها.
لكن منذ ذلك اليوم، بدأت تلاحظ أن عواطفها تنهار.
…
وفي اللحظة التي حصلت فيها موسيكا على الاعتراف الكامل من ماريسا—
’لن أكون تلميذة المعلمة الأكثر فخرًا بها أبدًا.‘
شيء ما داخل فينيشا تحطم.
وبذرة المسخ فتحت.
…
“أختي! لقد عدت!
في ذلك اليوم، لم يكن في البيت سوى فينيشا وموسيكا.
ماريسا وغرانتوني كانا خارجًا.
عادت موسيكا من مؤتمر أكاديمي عن سحر الأرواح.
“انظري يا أختي! اشتريت لنا كعكة قشدة لذيذة في طريقي!”
“موسيكا…”
التفتت وهي تخلع وشاحها، مبتسمة.
لكن ابتسامتها جمدت.
فقد كان نصف جسد فينيشا لم يعد بشريًا.
“آ… آسفة… أعتقد… أن هذا هو حدّي…”
امتلأت عينها بالدموع.
’كنتُ أظن… أن مشاعري ستتلاشى مع الوقت. أن الغيرة والجوع للحب… سيختفيان… لكن جهلي ورعونتي… جلبا شيئًا لم يكن يجب أن أستدعيه…‘
بإيماءة واحدة، فُتح العالم الآخر.
سعلت دمًا، وصرخت وهي تلتهمها الجنون.
فهمت موسيكا فورًا—
لو استمر الأمر، ستموت أختها.
لإنقاذها، كان عليها أن تدخل العالم الآخر وتوقف المسخ .
وكانت تعرف تمامًا ما يعنيه ذلك.
ومع ذلك، ركضت.
لأن فينيشا كانت أختها الحبيبة.
“أختي، آسفة… كان يجب أن أفهمك أكثر.”
’لا… هذا ليس خطأها! إنه ضعفي… أنا الضعيفة!‘
حتى وهي تحت سيطرة المسخ كانت فينيشا تصرخ داخلها.
لكن موسيكا ابتسمت.
“أتعلمين؟… كنتُ دائمًا أسعد إنسانة فقط لأنكِ كنتِ أختي.”
أطلقت سحر أرواحها.
“لا! لا تفعلي!”
صرخت فينيشا.
لكن موسيكا خطت إلى العالم الآخر—
وقطعت الرابط بين فينيشا و المسخ
أُغلق الباب.
وضوء باهر غمر المكان، وفقدت فينيشا وعيها من صدمة الانفصال.
وعندما فتحت عينيها—
كان كل شيء قد انتهى.
معلمتها… التي ضحت بحياتها لإنقاذها.
غرانتوني… الذي شوه وجهه في الفوضى.
وموسيكا… لم تكن موجودة.
بين يديها المرتعشتين، كانت القلادة التي وضعتها معلمتها في يدها وهي تحتضر.
وقفت وسط أنقاض البيت الذي كان يومًا ملاذها، وأطلقت ضحكة جوفاء.
المسخ الذي دمر مركز عواطفها.
لم تعد تعرف ماذا تفعل.
فقط مشت.
ومع كل خطوة، تساقطت بقية ذكرياتها.
أصبحت فارغة.
ذكرياتها، عواطفها—كل شيء تلاشى.
وهكذا أصبحت ما عليه فينيشا.
—فلاش—
فتحت عينيها.
بقايا دموع مرسومة على وجنتيها كشاهد على بكائها.
“آه…”
الآن فقط، فهمت لماذا كان قلبها يتألم بهذا الشكل.
لقد تذكرت أخيرًا كل الذنوب التي ارتكبتها