530 - خصلة من الأثير
الفصل 530: خصلة من الأثير
فاصل
ضغط. تقييد. تحكُّم.
يتراكم ويتراكم ويتراكم…
ثم… تحرر. ليس فجائيًا وانفجاريًا، لا يوجد ثوران عنيف، بل… تخفيف للقوة غير الطبيعية. ببطء وبسلاسة. خطوة لطيفة نحو اختلال النظام الطبيعي. حركة مريحة إلى الأمام، عائدة إلى الزمن وعبره. انحلال. إنتروبيا. تَوسُّع.
يخف الضغط، ثم يتراكم، ثم يخف من جديد. الفتحة صغيرة للغاية، وكلما اقتربت، يزداد الضغط أكثر فأكثر.
خصلة من ذرات الجمشت المتلألئة تنسكب من نافورة إيفربورن، باحثة عن المعرفة والأسماء في العالم الأوسع. في البداية، يجذبها تيار حاد كالسحب، تُسحب صعودًا عبر برج المقابر. وهناك أيضًا مزيد من الأثير، نهر من الجسيمات الكثيفة يتدفق باستمرار من الفراغ عائدًا إلى الفضاء الفيزيائي، وتستمد آليات المقابر الأثيرية طاقتها منه باستمرار.
لكن الخصلة تندفع حول الآلات الجائعة المُستهلكة وتتجاوزها. تدور وتقطع وترقص كورقة على سطح نهر سريع الجريان، إلا أن هذا النهر يشق طريقه عبر البرج أميالًا تلو أميال. البرج مألوف ولكنه ليس ممتعًا، مثل كابوس منسي بعد استيقاظ.
تخترق الخصلة فضاءاتٍ أثيريةً من الفيزياء الملتوية والجاذبية المُتحدية، من اللاواقعية المُتجسدة. تغلي الحياة في البرج؛ تشعر الخصلة بأصداء الكراهية القديمة وحيرة الميلاد الجديد. أشجارٌ شاهقة، مياهٌ عميقة، كثبانٌ رمليةٌ وثلجية متدحرجة. منطقةٌ تلو الأخرى، فصلٌ تلو الآخر.
توسلل الخصلة عبر قبة بيضاء ضخمة، مارّة بمخالب الظلال ودببة الأشباح —أناس من المقابر، مولودون خارج الواقع المادي، مصبوغين بفوضى الفراغ المحدودة— لكن يتردد صداها عند امرأة عجوز بيضاء الفراء. تتسلل على خطوات وعرة خارجة من منزلها في التندرا الثلجية نحو منطقة أخرى لا تفهمها ولا تستطيع فهمها.
تمر الخصلة من أعلى باب في البرج إلى مشهد جبلي متصاعد. ترفرف فوق نتوءات صخرية حادة، متجاوزة أعشاشًا عاليةً مليئةً بطيور براقة، عابرة أوراق الأشجار الوردية المتشبثة بالقمم، وعبر جسر من الأحجار الكريمة يعكس ألوان قوس قزح. القاعات والغرف التي تتقلب فيها وتندفع وتدور على الجانب الآخر كانت خاوية عديمة الحياة. قلعة عظيمة، تمتد نحو حافة غلاف هذا العالم الجوي، فارغة الآن كالقبر.
بالقرب، يُسمع نداء. رجاءٌ للأثير ليتشكل. بفضول، تتمايل الخصلة خارجة من نافذة وتلتقط تيارًا هابطًا، هابطة عائدةً إلى أسفل الجبل نحو مصدر الجذب. من حولها، حُزم أثيرية أخرى تفعل الشيء نفسه.
تغوص الخصلة في شقٍ داخل الجبل، متسللة كالرياح إلى أعماق حجر ساحق. جيولوس يتحرك، يستيقظ —أو ربما يحلم فقط، يتقلب في نومه— عميقًا، عميقًا في الأسفل. كلما اقتربت، ازداد جذب الحضور المتوسل قوة.
تنفتح مغارة من حولها، مضاءة بتوهج أزرق لبركة تحفظ الحياة. البركة لها جاذبيتها الخاصة، تسحب الخصلة نحوها، لكن التوسل أقوى. امرأة— تنين، ملكة التنانين، ماير إندراث— راكعة أمام البركة، مشعة بالأثير. صوتها وإرادتها يحاولان نسج تعويذة على البركة. لا، ليس على البركة، بل على ما بداخلها. حياة بعد حياة… موت. الأموات.
تقترب الخصلة، وتدور أولًا حول ماير، ثم حول… كيزيس إندراث. لكن ليس هو. جسد. لحم وعظم وتحلل.
تصغي الخصلة. جزء من رجاء، وجزء من توجيه، فالتعويذة تتعلق بـ… الانحلال. التحرر. العودة. ويبدو ذلك صائبًا، وجيدًا، وطبيعيًا، لذا تستجيب الخصلة، وتنضم لبقية الأثير، وتغوص في المياه المانحة للحياة، التي تتحول إلى اللون الأرجواني ولكنها تزداد سطوعًا. وفي اضطراب، تكسر التموجات سطح البركة، ملامسة الجسد المتحلل. ويبدأ في الانهيار، وتتغذى مكوناته وتُعيد تنشيط تأثير الحياة في البركة.
“السلام، أيها الزوج العزيز، والراحة، أخيرًا. لقد طُلب منك طيلة وقت طويل أن تحمل عبءَ عالمٍ على ضميرك. حاولت أن أشاركك هذا العبء، لكن ما فعلناه لحماية شعبنا…”
تمسح ماير إندراث بأناملها سطح البركة الزرقاء المتوهجة، والدموع تتلألأ على خديها.
“اغفر لي قولي هذا، يا حبيبي، لكنني سعيدة أخيرًا بالتخلي عن هذا العبء. إن تحولت أعين المفترسين الحادّة نحو شعبنا، فسوف يعرفون ثمن تضحيتك. لا يسعني سوى أن آمل أن الجيل الذي تركته خلفك سيكون قادرًا على حمايتهم.”
داخل البركة، يحوم الأثير حول أصابع المرأة، لكن الخصلة الآن تتردد. هذا مختلف. ليس انحلالًا، بل دمار. ترتدّ، وتغادر البركة، لكن المزيد من الأثير يصل، مجذوبًا بالرجاء السابق. هناك غضب فيه. كراهية. الدمار يناديه. وهكذا، تلتقط الخصلة نسمة هواء وتركبها خارجةً من الكهف إلى أعلى، حيث يمكنها أن تطلّ على الامتداد الواسع للأرض المنحنية ببطء التي تحيط بالعالم في الأسفل.
يتحرك جيولوس. القلعة —قلعة إندارث— تتصدّع كما لو كانت من رمل، منهارة في الهوّة بين القمتين وسط سحابة كثيفة من الغبار لا يمكن اختراقها. برج عالٍ ينهار عبر جسر قوس قزح. في لحظات، تختفي القلعة.
تتعلق الخصلة بحافة شعاع شمس منعكس، وتُسحب عبر عرض الحلقة. ترقص وتتمازج مع الأثير الذي يشكّل فقاعة الغلاف الجوي حول الحلقة، ثم تنسكب عبرها وتهبط لأميال نحو الحلقة التالية.
ريح قوية تهب عبر عشبٍ طويل أزرق محضر باتجاه قرية بسيطة لكنها واسعة الامتداد. تُحمل الخصلة إلى وسط القرية، تتقلب وتتخبط في الهواء، حتى تدور في مسار متعرج حول سلسلة من الأعمدة التي تزداد نحافة وارتفاعًا، تنبثق من قلب القرية بالضبط. نهاية المعركة.
يشغل شخصان تلك الأعمدة، رغم أن هناك عشرة آخرين على الأرض يراقبون دون أن يبدو أنهم يفعلون. الأول، أزوراس نحيف ذو عضلات —من البانثيون، مدرّب، أخ، كوردري ثيستس— والثانية، فتاة بشرية شابة. إلينور ليوين.
تدور الخصلة حول الاثنين، منسوجة داخل سحابة من الأثير لا يشعر بها أي منهما.
كلاهما يحافظ على وضعية متطابقة، مرتكزين على رؤوس أصابع القدم اليسرى أعلى الأعمدة الرقيقة، الركبة اليسرى مثنية، والكاحل الأيمن مستند عليها، والظهر مستقيم. يحمل البانثيون عارضة خشبية عبر كتفيه، وذراعاه ممدودتان على طولها، بينما تمسك الفتاة البشرية قضيبًا من معدن فضيّ خفيف. كانت ترتجف… لكنها لم تسقط.
“نعم، لقد شعرت به أثناء رحلتي إلى السطح،” قال كوردري، دون أن يؤثر كلامه على وضعه الدقيق المتزن.
“أعتقد أنني… لم ألاحظ،” تجيب إيلي، وهي تكافح للمحافظة على وضعيتها.
“أتوقع منكِ أن تولي اهتمامًا أكبر لما حولكِ، يا إلينور،” وبّخها كوردري بلطف. “عندما تعودين إلى السطح، خذي وقتكِ لتشعري بحركة المانا. إنها تتغير بشكل كبير. تضعف. إن كان لذلك علاقة ببرج المقابر الأثيرية أو أفيتوس، فعلى شقيقك أن يعرف.”
“حسنًا، يمكنني أن أسأل،” قالت إيلي، بنبرة ارتفعت قليلًا. أجابها كوردري بنظرة ثقيلة، فارتعشت، واهتز توازنها على العمود من توتر عضلاتها. “أعني… سأنتبه، المعلم كوردري، وبالطبع سأتحدث مع أخي.”
تغوص الخصلة، ملامسة يدي الفتاة وقضيب المعدن الفضي، ثم تجرفها الريح من جديد، عابرةً حافة الحلقة الثانية، وتهبط في دوائر واسعة متراخية نحو الحلقة الثالثة والأدنى.
تلمس أطراف الأمواج ذات الرغوة البيضاء التي تتلاطم على شاطئ قرية أخرى. الأطفال يلعبون في الماء، والخصلة تدور من حولهم ثم تندفع مبتعدة مرة أخرى.
البرج— برج المقابر الأثيرية— يرتفع مجددًا، ويُسحب الأثير عائدًا إليه. هناك عشرات، بل مئات، آلاف الحاويات التي تمتص الأثير، وتستجيب حُزم أثيرية أخرى بحماس، متحولو إلى البلورات والرونيات لتغذيتها. لكن الخصلة تنجذب لتجاوزها، مستمرة في النزول على امتداد البرج، عابرة منطقة تلو الأخرى تلو الأخرى، مألوفة ومقلقة.
بالقرب من قاعدة البرج، تتحول المناطق إلى أبنية مأهولة. أناس. آلاف الناس. ترفرف الخصلة بين خصلات الشعر، وتهمس قرب الآذان، فتجعل الشعيرات الدقيقة تقف. تتوقف عند مجموعة صغيرة من شرارات الحياة، إحداها تملك الجذب. فتاة، ذات شعر أشقر مقصوص، صاعدة. آدا غرانبيل.
يراقبها رفاقها بتردد. جميعهم شباب. جميعهم خائفون. “هل أنتِ متأكدة، آدا؟ لسنا مضطرين لـ—”
“إذا كنتم خائفين من الصعود، فأنتم في المكان الخطأ.” قطعت كلماتها حديث رفيقها. خرجت من لسانها كشرارات من نار. “لقد أخذ مني كل شيء. لن أدعه يأخذ المقابر الأثيرية أيضًا. أنا ذاهبة.”
“نحن معكِ، بالطبع،” قال آخر، ثم بدأوا في التحرك. صاعدين.
قوة جاذبة تسحب الخصلة بعيدًا عنهم، نحو مركز البرج، حيث تتوسط بنية بلورية محاطة بأحجار منحوتة بالرون وتدور في مدار ثابت، ناسجة شبكة عبر برج المقابر الأثيرية بأكمله. خيوط من الأثير تربط العقل المجرد في الداخل بكل أنحاء الهيكل. جي آي. الجن. الحارسة. تمدّ يدها نحو الخصلة، لكنها تبتعد متمايلة. بدلاً من ذلك، تستجيب حُزم أخرى من الأثير، تنجذب نحو آلياتها.
لكن الخصلة تنطلق مبتعدة، خارجة من الباب وعابرة البلدة التي باتت تُحيط بقاعدة البرج. تدفق الأثير هنا قوي، تيار يندفع خلال قمم جبال ماب البازيليسك، والتي أصبحت الآن أيضًا حلقة تقطع أراضي ألاكريا عن البرج.
قوافل من الناس تتحرك في خطوط مستقيمة بشكل غير طبيعي عبر الامتداد المسطح بين الجبال والبرج، كأشعة العجلة. كل شراراتهم الصغيرة تتوهج بقوة، ولبرهة، تنضم الخصلة إلى التيار الذي يجري عبر الجبال.
عندما تتحرك مجددًا، تُسحب جنوبًا مع نسيم بارد، مارّة عبر مدينة كارجيدان. المدينة تعج بالحياة، الكل يتجه نحو مكتبة شاهقة، والخصلة تتبعهم. في الداخل، أناس —ألاكريون، بشر يحملون دم البازيليسك— يناقشون ويصرخون ويهتفون. تنجذب الخصلة إلى واحدة بعينها، يلتصق بها الأثير كما لو أنه يراقب باهتمام.
قرنان داكنان يحيطان برأسها كالتاج، وسط شعر أزرق داكن. عيناها الحمراوان تجولان بجدية وتفكّر. لا تملك النداء، لكن جذبها قوي. كايرا دينوار. أخت، ابنة، رفيقة. غنية بدم عشيرة فريترا من الأزوراس.
“أقبل ترشيحكم لدعم وتمثيل مدينة كارجيدان في مجلس ألاكريان الجديد. أنا ممتنة لثقتكم، وأعتزم إثبات أنني أستحقها.”
تتلاعب الخصلة فجأة باضطراب عدد هائل من حُزم الأثير الأخرى بينما تتعرض جميعها لهبوب من المانا المتصاعدة. أشعة وانفجارات وانبعاثات تنطلق إلى السماء حول المكتبة، فتندفع الخصلة خارجة من نافذة، ثم تصعد إلى السماء، راكبة على موجات المانا الارتجاجية.
وفي انتفاخها، تومض مبتعدة، تحترق كوميض بنفسجي يحيط بأطراف الألوان الصفراء والحمراء والزرقاء للمانا.
نسيم بارد وتلاعب مانا عنصرية الماء والهواء يحملها على طول النهر إلى حدود سيهز كلار. تتبع صدى المكان الذي كان فيه الدرع العظيم سابقًا، حتى تصل إلى بقعة منحدر تُبنى فيها حاليًا ضيعة كبيرة من جديد.
في أرجاء الضيعة، يعمل العمال بنشاط، يوجهون المانا ويستخدمون أدواتهم. لكن وسط كل هذا الحراك، تقف امرأة واحدة بلا حراك. باستثناء حركة بسيطة، تنقر أظافرها ببعضها، على نحو متقطع، تنقر، تلاحظ، تجبر نفسها على السكون، ثم تعيد. تنضم الخصلة إلى بقية الأثير المتجمع حول المرأة: ذات قرنين وشعر لؤلؤي، صارمة، يد في الظلال، المنجل سيريس فريترا.
تتحرك المانا في الهواء كشلال، فتمد سيريس يدها إلى رقٍّ نصف ملفوف. تتنفس الصعداء، ثم تبتسم وتومئ برأسها. تخط شيئًا ما على اللفافة بقلم مغموس في الحبر، فتُشكّل شلالًا صغيرًا آخر من المانا، ثم تمطلق الخصلة بعده.
“أرجو أن تبلغوا تهنئتي للنائبة دينوار، كما ورد في المخطوطة.” تتردد كلماتها في المانا. “سأسعد كثيرًا برؤية صعودها السياسي المستمر وأنا أسعى لتقاعدي المستحق. لا شك لديّ أنها ستصبح رئيسة المجلس قريبًا.”
تدور الخصلة حول المانا سريعة التغير، ثم تتقشر، وتتبع تيارًا ضالًا من الأثير يتسرب شرقًا إلى إتريل، حول أوسع سفوح الجبال، فوق مدينة نيرمالا، وبعيدًا نحو الساحل. هبط الأثير على بلدة ميرين الصغيرة، حيث تستحضر امرأة —خادمة إتريل، ماوار فريترا، المانا كالظلال لإصلاح مبنى.
تلتحم شرارات الحياة في إعادة البناء، حيث انهار نصف مبنى —مدرسة للسحرة. يتجمع الأثير حول عاملين شابين، يحيط بهما ويفحص علاماتهما —أشكال التعويذة. يتوقفان عن عملهما، ينظران إلى بعضهما البعض. ينحني الصبي —الأخ الناجي، شيلد، سيث ميلفيو— ويضع جبينه المتعرق والملطخ بالتراب على جبين الفتاة —الأخت الناجية، سينتري، مايلا فيرويذر. تبتسم وتمنح الصبي قبلة سريعة وسرية قبل أن تعود إلى العمل. يحيط بهما الأثير المتدفق قبل أن يواصل طريقه نحو البحر البعيد، لكن الخصلة تظل خافتة.
مانا ثقيلة ذات سمة ترابية تلتصق بأنقاض صخرة أفيتوسية أُزيلت من الحفرة التي تحتوي على نصف المدرسة الصغيرة. تتدحرج الصخرة وتدور على الأرض بينما يُحرّك الزوجان الشابان الحجارة ويسحبانها.
سرعان ما يصبح الجذب قويًا جدًا بحيث لا يمكن تجاهله، وتغادر الخصلة مدينة ميرين، متتبعة الأثير المتدفق فوق الساحل إلى تيارات الرياح والمانا التي ترسم مسارًا بين القارات. تسبح وحوش ليفياثان متحولة في المحيط أدناه، حيث ربما كانت مساكنها القديمة.
تختفي ألاكريا من الخلف، وتقترب ديكاثين من الأمام.
تنقسم التيارات الأثيرية، بعضها يتجه شرقًا، والباقي جنوبًا. تتبع هذه الخصلة الساحل شرقًا، تتدحرج مع رياح المنحدرات، وتهب جيئة وذهابًا عبر الساحل على طول ضغط الهواء المتغير وجيوب المانا الجوية المتنافسة.
تمر قرى صيد صغيرة في الأسفل، تحمل آثار معارك سابقة، وتقترب مدينة مترامية الأطراف مسورة في الأفق. تغوص الخصلة في خليج إيستستين، تدور مع التيارات الدائرية، وتنجرف عبر أشرعة سفن الشحن الصغيرة قبل أن تلتقط سحابة بخار من سفينة كبيرة واحدة وتنطلق عاليًا في الهواء. هناك جاذبية قوية من القصر في الأسفل، وترفرف الخصلة لترقص فوق القمم الحادة قبل أن اطير كورقة من خلال نافذة مفتوحة.
اجتمع الأثير حول تنين عجوز ذي ندوب. شارون إندراث. يقف بهدوء بينما يجلس خمسة آخرون حول طاولة بيضاوية، منغمسين في حديثهم. تنجذب إليه الخصلة أيضًا، ملفوفة للحظات في تيار الأثير الأكبر.
وحول الطاولة، يتجمع آخرون أيضًا، بعضهم أكثر من البقية.
“هل نبدأ بأخذ الحضور؟” سألت ليليا هيلستيا، بتعبير جاد وعينين لامعتين. رفرف الخيط فوق كومة الأوراق أمامها. “كاثلين غلايدر، ممثلة عن إيتيستن.”
رفعت كاثلين، ذات الشعر الداكن والوجه الشاحب الثابت، يدًا رقيقة.
“كاسبيان بلايدهارت، ممثل بلاكبيرن.”
رفع رجل نحيل ذو ملامح حادة، وشارب رفيع، ونظارات بلا إطار، يدًا وحاجبًا في آنٍ معًا. ركب الخيط دفعة هواء عبثت بشعره الداكن.
“أستيرا ألدرمان، مدينة كالبيرك.”
طرقت السيدة أستيرا على الطاولة بمفاصل أصابعها. دارت اللفيفة حول رجل الطاولة الخشبية من تحتها.
تابعت ليليا قراءة قائمتها، واستمر ممثلو المدن من جميع أنحاء سابين في رفع أيديهم. عادت الخصلة لتدور حول شارون، الذي كان جذبها أقوى من غيره.
“وبالطبع، أنا ليليا هيلستيا، ممثلة عن زيروس. مرحبًا بكم في الاجتماع الرسمي الثالث للمجلس الأعلى لسابين،” قالت ليليا، وهي تنظر حولها بابتسامة متوترة. “ولدينا ضيف خاص اليوم: شارون من عشيرة إندراث.”
تقدّم التنين إلى الأمام، لكن الخصلة اندفعت خارجة من النافذة، متجهة جنوبًا فوق مدينة زيروس. مرّت فوق بحيرة المرايا ومدينة كارن، لكنها بدأت تتباطأ مع تحوّل الغابات والحقول في سابين إلى كثبان رملية متدحرجة، وأميال من الرمال اللامتناهية والأخاديد الصخرية. تجمع الأثير تحت الصحراء، محصورًا داخل المانا السميكة من سمة الأرض.
الجذب هنا قوي. تيارات الأثير تتجمّع من جميع أنحاء القارة وتندفع إلى الأنفاق تحت الأرض.
اندفعت الخصلة عبر أحد هذه الأنفاق إلى المدينة المعكوسة —مدينة فيلدوريال، التي تشبه خلية نحل مقلوبة. شرارات الحياة تتزاحم معًا، تملأ كل طريق، وكل شرفة، وحتى أسطح المنازل والدرابزينات العائمة من الحجارة، كلهم ينظرون نحو مركز المدينة.
شُيدت ساحة قتال في الهواء الطلق داخل الكهف. تدعمها عوارض وسلاسل مستحضرة بالمانا، لكنها مع ذلك ترتج مع كل ضربة قوية. في مركز الساحة، يواجه قزمان بعضهما البعض —دايمور سيلفرشيل، شاب داكن الشعر وموهوب في تشكيل التعاويذ، وسكارن إيرثبورن، أكبر منه قليلًا، ذو لحية شقراء، وعابس الوجه.
تتوهج الساحة بالحمم، تغلي من خلال الشقوق في أرضها. ساقا سكارن ملفوفتان بالصخر، وهو ممسك بفأس سبج ثقيل. ألقى به، فدار خارجًا في مسار قوسي، يدور ويدور في الهواء نحو دايمور، الذي صدّه بجُرفة مفاجئة من المانا والحرارة، ثم غاص في أحد الشقوق. وما إن دار سكارن يبحث عنه، حتى انفجر دايمور مجددًا من شق مختلف، وضرب سكارن في ظهره بمطرقة فولاذية لامعة. سقط سكارن أرضًا، ورفع دايمور المطرقة فوق رأسه.
“بعد معركة ضارية، لكنها آسرة تقنيًا، تُقام المباراة الثالثة والتسعون من اختبار الملك على يد دايمور من عشيرة سيلفرشيل، الذي هزم خصمه، سكارن من عشيرة إيرثبورن!” دوى صوت مُعلّق في أرجاء الكهف. “سينتقل دايمور إلى الجولة التالية، بينما يُقصي سكارن.”
يملأ الزئير المدينة، ويشتد الهتاف والاستهجان الغاضب على قدم المساواة. تتردد الخصلة، منجذبة إلى الوجود الكثيف للأثير في المدينة، بينما تدور معارك أخرى تحتها. ثم، تلتقط ضغطًا متصاعدًا مفاجئًا —مزيجًا من الهواء الساخن والمانا— تصعد عبر سلسلة من الشقوق وتعود إلى السطح. تلتقطها رياح أكثر برودة، فتنجذب مجددًا شرقًا، مارة فوق الجبال العظيمة جنوب برج المقابر قبل أن تغوص في سهول الوحوش.
تمتد غابة كثيفة أمامها، غنية بالأثير المنبعث من البرج. تنحدر الخصلة أسفل أغصان الأشجار المتشابكة، وتتبع أثر قطيع من كلاب الصيد. ترتعش هذه المخلوقات مع كل حركة هواء خافتة أو صوت حاد. تجتازها الخصلة، فتدور حول قاعدة شجرة ميتة، منضمة إلى تجمع من الذرات الأثيرية. وبينما يقترب قطيع كلاب الصيد من الخصلة، يتجمد أحد كلاب الصيد —وهو نفسه حاضن لمجموعة من الأثير— في مكانه. ردًا على ذلك، يقفز ثعلب الكابوس المختبئ من مخبئه، ليظهر في اللحظة التي تسبق فكيه حلق كلب صيد آخر.
انطلق القطيع في سباقٍ يائسٍ بينما عوى ثعلب الكابوس على فريسته. تبت الخصلة القطيع الهارب وهي تندفع في خطٍ متعرجٍ بين الأشجار. حفيفٌ يُصدر من أعلى، ووميضٌ وصوتُ دويٍّ مُدوّي بينما ينقضّ صقرٌ على القطيع، مُمسكًا بأصغر وأبطأ كلب صيدٍ خلف قرونه مباشرةً. صرخ الوحش من الألم بينما رفعه صقر الرعد بمخالبه، مُحاولًا الإمساك بالكلب المُنهك.
تتبعه الخصلة بينما يصعد الصقر عبر الغطاء. ببطء، يتوقف صراع كلب الغابة مع خفوت شرارة حياته. ثم يبدأ صقر الرعد بالنزول إلى عش، حيث تستقر أربع شرارات صغيرة، لكن الخصلة تواصل رحلتها شمالًا، جاذبًا إياها بجذبة بعيدة أخرى.
تدفقت المانا الجوية باستمرار شمالًا، تجذبها فراغ هائل، وتسير الخصلة مع المد حتى تفسح الغابة الطريق فجأةً لشريط عشبي يحتل صفًا متزايدًا من مباني القرية. ترتفع هياكل جديدة ببطء من الأرض، بينما تحوم الخصلة حول امرأة —ضعر أحمر ملتهب، ألاكريان، خادمة، ليرا درايد— تقود مجموعة صغيرة من السحرة في هذا الجهد.
“مذهلٌ ما وصلتِ إليه في بضعة أشهرٍ قليلة،” قالت امرأةٌ أخرى. قصيرة القامة، ذات عينين برتقاليتين زاهيتين، عنقاء. سوليه من عشيرة أسكليبيوس. “لا بد أن لديكِ مسكنًا لعشرة آلاف ألاكريان الآن؟”
“تمتد مستوطنتنا بلا انقطاع من قاعدة برج المقابر الأثيرية إلى الساحل الشرقي،” أجابت ليرا بفخر بينما يستقر الخصلة في بقية الأثير الذي يدور حولها. “وقد حُفرت بالفعل أنفاق لخط السكة الحديدية القاري الجديد.”
“أوه، أعلم. لم يتحدث رين كاين الرابع عن أي شيء آخر خلال زياراته إلى هيرث. لكنني لا أريد إشغالك. دليني على الأم الحامل، وسأدعك تعودين إلى واجباتك.”
“الطابقان ذوا السقف الأرجواني، ربما خمسة عشر مبنىً أسفله.” ألقت ليرا نظرةً خفيةً على العنقاء واقتربت. انجذبت الخصلة إلى أعماق سحابة الأثير الصغيرة المحيطة بليرا. “لو أمكن، انتبهي جيدًا لبيولوجيا الرضيع؟ الأم ألاكريان، لكن الأب رجل من إتستين. بالنظر إلى نسبنا، أعتقد أنه من المفيد لنا أن نفهم المزيد عن هذه… العلاقات الزوجية.”
رفعت سوليه حاجبيها باهتمام. “أرى. نعم، سأنتبه. أعتقد أنكم تولدون بنواة، بينما الديكاثيون لا يفعلون، أليس كذلك؟”
استمر الحديث قليلًا قبل أن تهرع سوليه بعيدًا، بينما عاد انتباه ليرا إلى البناء. دارت الخصلة حولها بسرعة قبل أن تكمل طريقها شمالًا إلى إلينور.
يمتد العشب شمالًا لأميال، مُغطيًا الرماد. ورغم أن مانا الرياح لا تبد أي اختلاف —ربما أرق— فإن مانا الأرض المُلتصقة بالتربة غنية بشعور أفيتوس. إنها تستدعي مانا الماء، جاذبةً إياه من أعمق طبقات المياه الجوفية، تلك التي لم تتأثر بالدمار هنا، فتسحب المانا الماء إلى السطح. ورغم أن معظمها من العشب، إلا أن المشهد مُرصّع ببعض الشجيرات والأشجار الصغيرة، التي تحملها الرياح من سهول الوحوش أو الجبال البعيدة.
المشهد شبه خالٍ تمامًا، لكن لا يزال هناك جاذبية قوية نحو الشمال، وسرعان ما تجد الخصلة، التي لا تزال تركب تيارات المانا المتدفقة، نفسها فوق بستان صغير وسط صحراء رمادية، لا يزيد عن مئة شجرة نصف ناضجة، وعدد مماثل من الشتلات والبراعم. تملأ المانا الأشجار، ويتجمع جيب كبير من الأثير حول شخصين وسط شرارات حياة عديدة.
نقترب الخصلة بشغف، كأنها تعود إلى صديق قديم، وتنضم إلى الأثير المتدفق. تنحني تيسيا إيراليث، بشعرها اللامع تحت أشعة الشمس، فوق شجرة غُرست حديثًا. ترقص جزيئات رمادية ذهبية على أطراف أصابعها، دافعةً سحابة الأثير لإفساح المجال لها.
تستجيب المانا في التربة، ثم تندفع نحو جذور الشجرة. تبدأ بالنمو بسرعة، فتنبت من ست بوصات إلى أكثر من قدمين في ثوانٍ، وتنمو أغصان جديدة، وتتسع أوراقها وتزداد إشراقًا. تغوص الخصلة، متحمسة، في الجذع النحيل، وتتسابق عبره بمحاذاة المانا، وعندما تخرج مجددًا، تكون عروقها الأرجوانية الرفيعة قد انتشرت بين الأوراق.
ركع إلف أكبر سنًا —فيريون إيراليث— ومسح بأصابعه ورقةً. “غريب! هذا ما يقرب من عشرين منهم الآن. وأنت متأكدة من أنك لم تفعلي شيئًا مختلفًا؟”
“لا شيء على الإطلاق،” قالت تيسيا، وهي تميل إلى الوراء وتنظر إلى الشجرة الصغيرة في حيرة. “ربما يكون هناك شيء في التربة —أو في الغلاف الجوي؟ هناك طبقات عديدة ومختلفة من السحر الذي يعمل الآن: بذور مخزنة، تربة أفيتوس، نمو قسري من خلال سحر النبات، والآثار المدمرة المتبقية لتقنية آكل العالم.” رفعت رأسها. “حتى حلقات أفيتوس قد يكون لها تأثير، أو برج المقابر، حتى في هذه المسافة البعيدة.” تتبع أصابعها الأوردة الأرجوانية. “ربما الأثير…”
“أُكرر عليك أن تُحضر خطيبك ليُلقي نظرة،” همهم فيريون، واقفًا مُجددًا وعاقدًا ذراعيه. “ما الذي يشغله كل هذا الاهتمام على أي حال؟ إنه مُتقاعد، أليس كذلك؟”
نظرة تيسيا —القلق وعدم الارتياح الممزوج بتوبيخ خفيف— جعلت فيريون يتألم. “إنه يعمل دائمًا الآن. هناك شيء لا يخبرني به.” انحنى رأسها، وارتجفت سحابة الأثير الكثيفة. “أنا قلق عليه يا جدي.”
“باه،” أجاب فيريون وهو يلوح بيديه في الهواء. “متى كان القلق على آرثر ليوين يُجدي نفعًا؟ لقد وعدكِ بالزواج، وأنا متأكد من أن هذا يعني أنه سيبقى ليُفي بوعوده.”
رفعت تيسيا رأسها فجأةً، ومدت يدها وجذبت فيريون إلى عناقٍ قوي، وضغطت وجهها على كتفه. “أريده أن يبقى معنا لفترة أطول. لكنه يستهلك الكثير من طاقته، وحتى علاقته بريجيس تلاشت…”
تحلق الخصلات بالقرب من بعضها البعض، وتمر بجانب الزوج.
“أنا آسف يا تيس،” قال فيريون بصوت أجش. “أنا أناني. ما كان يجب أن تكوني هنا. هيا بنا نوصلك إلى المنزل، حسنًا يا صغيرتي؟”
بينما تنظر تيسيا نحو الغرب البعيد، ينطلق ضوءٌ خافتٌ على طول خط نظرتها، مُحلقًا فوق الأرض القاحلة، والجبال العظيمة، ثم فوق بلدةٍ مزدهرة، ستُصبح قريبًا مدينةً ناشئة. آلافٌ من شرارات الحياة تملأ المباني حديثة البناء، مزيجٌ من الإلف والبشر والأزوراس. تهدر المانا من تحت الأرض بينما يتردد صدى الحرارة والضوضاء في آشبر، لكن الضوء الخافت ينطلق مُباشرةً نحو العقار الكبير خارج المدينة.
الأثير كثيف هنا، يغلي أكثر فأكثر في كل لحظة، حتى أن الخصلة تُدفع وتُضرب، في البداية لا تستطيع حتى الاقتراب. شيئًا فشيئًا، عاجزة عن مقاومة الجذب، تقترب أكثر فأكثر، حتى تتسلل عبر نافذة، وتنزل درجًا، وتشق طريقها إلى قبو دافئ.
سجاد سميك يُغطي الأرضية، ورفوف ممتدة من الأرض إلى السقف تعجّ باللفائف والكتب. نار أرجوانية ترقص في مدفأة صغيرة. ثلاثة أشخاص يجلسون على الأرض في وسط الغرفة.
الأول، وهو يرسم الأثير بنشاط، يكاد يلتقط الخصلة. الشكل الذئبي، بلونه الداكن الداكن وعيناه البراقتان ولهيبه الأثيري، لا يلاحظ ذلك بينما تتجنب الخصلة الجذب. مع أن الأثير ينجذب نحو الفتاة بجانبه —ريجيس وسيلفي— إلا أنها لا تعمل بنشاط على التأثير عليه. ساقاها متقاطعتان، وذراعاها ممتدتان فوق ركبتيها، راحتاها مرفوعتان وأصابعها ملتفة. عيناها الذهبيتان مفتوحتان لكنهما غير مركزتين.
آرثر ليوين هو النقطة الثالثة في مثلثهم. نواته فراغٌ في صدره، كرةٌ متصدعةٌ تلتف حول شظايا كرةٍ متصدعةٍ ثانية. لا يتلاعب بالأثير —يمتصه وينقيه ويطرده لاستخدامه— لكن الأثير قد أتى مع ذلك.
شرارة حياة آرثر ساطعة، تتلألأ في الأثير. تتوهج، ثم تخبو، ثم تخفت إلى حالتها الطبيعية.
“ما زال الأمر لا يعمل.” انطلقت كلمات آرثر في الهواء كما لو كان يختبرها. “لكننا نعرف السبب. نحن نضيع الوقت والجهد في الاستمرار في تجربة الأشياء نفسها. حان وقت الانتقال إلى المرحلة التالية. كان من المفترض أن نصل إلى هذا.”
“اسمع، أعلم أنك لا تريدينني أن أستمر في مراقبتك طوال حياتكِ، لكن هذا يبدو تصعيدًا غير ضروري،” قال ريجيس بينما تُكمل الخصلة دورتها الأولى مع الثلاثي. “لا عودة إذا لم ينجح الأمر أو حدث خطأ ما، أنت تعلم ذلك. يمكننا أن نأخذ وقتنا. أنت تعلم أنني لا أمانع—”
“أعلم ذلك يا ريجيس.” رمق آرثر رفيقه بعينيه الذهبيتين، ليس بانزعاج، بل بفهم. “لكننا مررنا بتجارب كثيرة. جوهر المشكلة هو أنا. أعلم أنك تعتقد أنني أتصرف ببرود، لكننا اختبرنا ونظرنا. نعلم جميعًا أن هذه هي الخطوة التالية. لا داعي للمماطلة.”
“لا يوجد سبب؟” ردّ ريجيس بانفعال. “ربما البقاء حتى زفافك؟ أو أنك لا تعرف ما سيحدث لي ولسيلفي إذا قطعته؟ لنأخذ وقتنا. لا تدعي هذا الأمر يفوتك.” تسرب انفعال ريجيس إلى الأثير، وانتشر في الغرفة، مسببًا اشتعال النار بلون الجمشت الساخن.
ألقت سيلفي نظرةً عليه وتألمت، تشعر بالضغط. “يمكنك الشعور بكمية الأثير في الغلاف الجوي. لدرجة أنه يطرد المانا، على الأقل هنا. أعتقد حقًا أن آرثر سيكون بخير، حتى بدون نواته. الأثير لا يزال في جسده، يبقيه حيًا.”
“وتدور العجلة وتدور،” قال ريجيس ساخرًا. “أشعر وكأننا نجري نفس المحادثة اللعينة مرارًا وتكرارًا الآن.”
“أعلم أن الأمر صعبٌ مع توتر رابطتنا هكذا.” نبرة آرثر هادئة، وكلماته بسيطة ومريحة. “لطالما كان الأثير مُتعلقًا بالبصيرة. وأشعر بذلك. بدفع إرادة ماير إلى مرحلتها الثانية، تمكنتُ من النظر إلى الداخل بطريقة لم أفعلها منذ الأرض. انسجامها مع الحياة —يصعب شرحه، وأعلم أنني لم أُحسن استخدامه، لكنني أشعر بطاقة حياتي. لو استطعتُ تجاوز هذا الحاجز الأخير، وتثبيته…”
“لكنني ما زلت لا أفهم كيف يُمكن أن تُشكّل هذه الكتلة من الأثير وقطع النواة المكسورة مشكلة. تدمير ما تبقى من نواتك هو ببساطة…” قفز ذئب الظل على قدميه، دار في دائرة ضيقة، وجلس تمامًا حيث كان من قبل. “ليس هذا غرورًا. إنه طيشان وغباء.”
استقرت عينا سيلفي على ريجيس، فأطلق نفسًا حزينًا. قالت كما لو كانت تتحدث نيابةً عنهما، “نثق بك يا آرثر. نحن خائفان عليك فحسب.”
“وعلينا أيضًا،” تذمر ريجيس، كلماته بالكاد تُحرّك الهواء أمامه بأنفاسه. يغرق رأسه على كفيه.
تنتقل الخصلة إلى سيلفي، وتفركها مثل القطة، مرتاحة ومتملكة، وتدفع بقية الأثير للقيام بذلك.
لا تزال نظرة آرثر موجهة إلى ريجيس، الذي يهزّ زيله، ويزمجر في صدره، ثم يذوب في خصلة صغير قبل أن يختفي داخل آرثر. تتبعه الخصلة. معًا، ينتقلان عبر قنوات كالشرايين إلى بقايا نواة آرثر، حيث يستقر ريجيس ويبدأ بسحب الأثير. تضطر الخصلة إلى التراجع عمدًا لتجنب السحب، لكن سرعان ما يمتلئ جسد آرثر بالأثير.
وجودٌ من داخل آرثر، كهويةٍ منفصلة —إرادة ماير إندراث— يمدُّ يده إلى الأثير، طالبًا دعمه ومساعدته. ثمة جرحٌ في هذا الجسد، جرحٌ يحتاج إلى تطهيرٍ وشفاء. يُشعِر ريجيس أثيره كمنارة، مُضيفًا طبقةً ثانيةً لتوجيه الأثير.
فتنت اخصلة وتحركت نحو غلاف النواة. الأثير المحيط بها مُتصلب و… ميت. فارغ من الطاقة والهدف. غير طبيعي. لم يعد قابلًا للانسحاب والاستفادة.
يعود النداء مجددًا. حطموا النواة. داووا الجرح. في جميع أنحاء النواة، بدأ الأثير يستجيب، مخترقًا السطح المتشقق والمتصلب. يتبعه الخصلة، ببطء في البداية، محاولًا، مترددًا، ثم بقوة أكبر. يذوب الأثير الصلب الميت تحت وطأة الجهد، وتتسع الشقوق.
“إنه يعمل.”
صوت سيلفي مكتوم داخل النواة، لكن سماعه يشجع الخصلة على أن تكون أسرع وأكثر جوعًا. النواة تنقسم الآن، والحواف المكسورة بدأت تنفصل عن بعضها. جسد آرثر يبدو أكثر صحةً وصوابًا. شرارة حياته تتألق، وتزداد إشراقًا مع إزالة عائق النواة، وتآكلها بفعل الأثير.
الإرادة موجودة أيضًا. ماير، جالسة بين النواتين المكسورتين مع ريجيس. ليست واعية أو مدركة لذاتها، بل خامة وثاقبة.
العملية ليست سريعة، ولكنها ليست بطيئة أيضًا. مع اختفاء معظم نواة الأثير المحطمة، ينتقل الأثير إلى لحم نواة المانا الخشن والميت منذ زمن طويل. بينما كان الأثير صلبًا، كان نواة المانا طرية، وتذوب في لحظات. وسرعان ما يصبح التجويف نظيفًا، واللحم سليمًا ومُجهزًا.
يتدفق ريجيس عائدًا من الجسد، وتتبعه الخصلة، تطنّ في أرجاء الغرفة، عالقة في سيل من الأثير المثار. سواءً في ثوانٍ أو ساعات، لا تشعر الخصلة بالزمن، لكن كل الأثير يغادر جسد آرثر. لا يزال يملأ الغرفة، حيث يمتص ريجيس بعض الجزيئات، بينما يلتصق بعضها الآخر بسيلفي، لكن المزيد يتدفق الآن عائدًا من غرفة القبو.
في هذه الأثناء، يزداد بريق حياة آرثر اشتعالًا داخل جسده. يتحرك ويدور، كما لو أنه سيطر بطريقة ما على طاقة حياته.
لكن الجذب قد انحسر. لم تعد الخصلة اشعر بالجذب هنا، بل من مسافة أبعد. أبعد بكثير. ببطء في البداية، ثم سرعان ما تكتسب سرعة أكبر، تنطلق الخصلة مع بقية الأثير، متدفقة عائدة نحو البرج الشاهق. تصعد كامل ارتفاعه قبل أن تخترق الحواجز الأخيرة للغلاف الجوي العلوي، ثم إلى ما وراءه.
تلتقط الضوء المنعكس، فتنطلق عبر الفضاء المفتوح، وتستمر الضغط في الانحسار. لا مانا. لا أثير. لا توسلات. لا ضغط.
ولكن لا يزال هناك عامل جذب… تسحبها أبعد وأبعد.
ثم، تتجمع تلك المجموعة الرقيقة من الذرات الأثيرية داخل نفسها، مُدركةً فجأةً الاهتمام المُنصب عليها. كالعيون. عيون في الظلام اللامتناهي.
————————