البداية بعد النهاية - 451 - مشهد مستحيل
– ليرا دريد :
توقفت مؤقتًا بعد إندفاعي من مهمة إلى أخرى وأخذت نفسًا عميقًا.
ظلت الشمس معلقة فوق الجبال في الغرب وأشعتها الأخيرة لا تزال دافئة، هدأ النسيم شبه المستمر الذي يهب عبر الأراضي القاحلة مما خفف من سحابة الرماد الناعمة المعلقة دائمًا في الهواء، إنه يوم رائع ومع ذلك وجدت أنه من المؤلم الإسترخاء فالجهد في مواصلة التحقق من العناصر الموجودة في قائمتي بأسرع وقت ممكن يقف ضد رغبة جسدي.
لقد نقلتني واجباتي من حالة طوارئ بسيطة إلى أخرى لمدة يومين متتاليين ولم أحصل حتى على مهلة قصيرة فيما بدا وكأنه ساعات، أغمضت عيني وأدرت وجهي نحو الشمس لأترك دفئها يلمس وجهي بينما مرت بي قشعريرة…
توتر متراكم يبحث عن التحرر.
شعرت بشفتي تنحني في إبتسامة.
‘هذا… هذا هو معنى كونك قائدًا… هذا ما كان يمكن أن أفعله طوال حياتي لو كنت أعرف فقط…’.
أن تكون موضع تقدير وتحظى بالإحترام بل وحتى – أجرؤ على القول – أن تكون محبوبًا… إن هذا إدمان أكثر حتى من السعي المستمر للسلطة والقوة.
إن مشاهدة سيريس والعمل معها بينما نساعد شعبنا على التأقلم مع حياتهم الجديدة أمر مُرض بطريقة لم أفهمها من قبل، أعطاني هذا الأمل وربما جعلني سعيدة لأن أرثر ليوين لم يقتلني في إتيستين أكثر من أي شيء أخر، لم أستطع إلا أن أفكر في نفسي السابقة ولكن الآن من الواضح أنني إتخذت القرار الصحيح.
عندما سمحت للشمس بتقبيل بشرتي شعرت بعيون حادة تركز على ظهري.
فتحت عيني بسهولة وإلتفت ببطء بحثا عن المراقب الذي لم يكن من الصعب إكتشافه: صبي نحيف يرتدي نظارة طبية ويجلس على حافة سرير المزرعة بينما يحدق الآن بإهتمام في ركبتيه.
حاول إلقاء نظرة سريعة على الأعلى لكنه ضبطني أشاهده ليحمر لونه ويحدق بشدة في الأرض.
أثار فضولي لذا مشيت في إتجاهه وحركاتي غير متسرعة بطريقة لم أكن معتادة عليها بالفعل، شعرت ببعض السوء عندما رأيته يبدأ بالذعر خوفًا على الأرجح من التوبيخ أو من شيء أسوأ، يبدو أنه من الوافدين الجدد لكني لم أعرفه أو إلى أي دماء ينتمي، بسبب التوتر الذي يظهره وحقيقة أنه معزول بينما الجميع يعملون بجد شككت في أنه هنا بمفرده، ربما هو أحد سكان الطبقة الدنيا من الطابق الثاني لللمقابر الأثرية الذي تسلل خلال نزوح سيريس.
وقفت أمامه بذراعين متقاطعان وشفتاي مشدودتان قليلاً.
“هل أخطأت في حقك أيها الفتى؟” سألت “أنت تحدق بي كما لو أقسمت يمين الإنتقام مني بالدم” أضفت بينما أرفع رأسي قليلاً “بالنظر إلى كل شيء أعتقد أن هذا ممكن”.
جفل بينما بنظر إليّ قبل أن يلتفت إلى الوراء ويرجع مرة أخرى ثم سحب ساقيه إلى صدره كما لو أنه ينكمش.
إسترخيت وخففت من تعابير وجهي وموقفي “إسترخي يا فتى لقد أردت فقط أن أمزح معك، لم لا نبدأ من جديد؟ أنا متأكدة من أنك تعرف إسمي بالفعل ولكن أنا ليرا من أنت؟”.
عض الجزء الداخلي من شفته وظهرت التروس الدوارة لأفكاره في عينيه ثم وقف على قدميه وإنحنى “أنا آسف الخادمة ليرا من الدماء العليا دريد لم أقصد التحديق…” إبتلع لعابه بشدة “أنا سيث من الدماء العليا ميلفيو”.
‘ميلفيو… ميلفيو؟’ فكرت في الإسم بحثًا عن أي صلة به.
فوجئت قليلاً عندما سمعته يطلق على نفسه لقب الدماء العليا ولكن بدرجة أقل لأنني لم أكن أعرف أي شيء عن الإسم.
“أين بقية دمك إذن؟” سألت حريصة على ضمان عدم فصل نفس الدماء أثناء نقلهم بعيدًا عن المستوطنة الصغيرة التي وصلوا إليها والتي لم تكن قادرة على دعمهم جميعًا.
أظلم وجه الصبي وأدركت الحقيقة.
“أنت وحدك إذن؟” سألت “هل ضاع دمائك في الحرب؟”.
أومأ برأسه في حركة عصبية طفيفة للغاية ثم جلس مرة أخرى على الحافة الخشبية لسرير المزرعة المرتفع.
“لقد قُتلوا جميعاً… هنا” لوح بيده إلى الرماد خارج القرية الصغيرة “إرتفع مستوى دمائي مؤخرًا بسبب شيء فعلته أختي في الحرب… ومن ثم تم محيهم تماما”.
جلست بجانبه مفكرة في كلماتي بعناية “لم تشعر قط بأنك شخص ذو دماء عليا أليس كذلك؟”.
“ليس حقا الآخرون في الأكاديمية…” هز رأسه “حسنًا لم يعاملوني وكأنني على قدم المساواة معهم… ليس حتى…” إبتلع لعابه بشدة “ليس حتى البروفيسور غراي… أرثر”.
“آه” قلت متذكرة القليل مما أعرفه عن وقت أرثر ليوين المختبئ في ألاكريا “أنت أحد طلابه إذن هل هذا هو سبب مجيئك إلى ديكاثين؟ لمتابعة معلمك؟”.
“لا!” قال بسرعة كبيرة ونظر إلي من زاوية عينه “أعني أنه لم يكن لدي أي مكان آخر أذهب إليه وأرادت المنجل سيريس أن تعرف المزيد عن إغداقي أنا وصديقي لذا فكرت ربما هنا على الأقل أستطيع أن أفعل… شيئًا ما؟” هز كتفيه بلا حول ولا قوة “لم أكن أعتقد أنني أستطيع العودة إلى موطن دمائي أو الأكاديمية… ليس بعد كل ما حدث”.
ضغطت على شفتي بابتسامة ضيقة دون أن أقول أي شيء آخر، من الواضح أن الصبي بحاجة إلى التحدث وكنت على إستعداد للسماح له بذلك مع القليل من الوقت الذي علي توفيره.
وقف مرة أخرى وإتخذ بضع خطوات بعيدًا في مواجهة الأراضي القاحلة الرمادية في الشمال “لم على سيرس أن تموت من أجل… ذلك؟” سأل “ماتت وهي ترسم خريطة للطريق هذا ما قيل لنا ولكن الآن أنظري إليها لقد ماتت من أجل لا شيء”.
‘ميلفيو…’.
إستقر الإسم في ذهني وأعاد تقريرًا تلقيته منذ زمن طويل حيث تم تكليف عدد كبير من الحراس بصنع طريق عبر غابات الجان المسحورة، حارسة شابة وموهوبة تدعى سيرس من الدماء المسماة ميلفيو هي التي نجحت أخيرًا حيث فشل أقرانها.
“مات الكثيرون دون داعٍ في هذه الحرب” قلت “الأزوراس لا يهتمون بحياة الأدنى ولكن ربما…” توقفت تاركتا الكلمات تتدلى “ربما لم تكن وفاتهم هباءً إذا أظهروا لنا أن العالم بحاجة إلى التغيير… إذا كانوا يحفزوننا على إجراء هذا التغيير بالذات يبدو لي أن هذا سبب أكثر إستحقاقًا للقتال من أجله”.
لم يرد الصبي حينها لفت إنتباهي إقتراب شخصية ما.
أنفالد ذو الدم المسمى توربور بأكتاف عريضة وفروة رأس محلوقة واضحة حتى من مسافة بعيدة.
وقفت وتمددت حين شعرت أن إجازتي القصيرة تقترب من نهايتها.
“يمكنني الإستعانة بساحر شاب متحمس” قلت بينما أضع يدي بخفة على كتف الصبي “إذا كنت على إستعداد أنا متأكدة من أنه يمكننا إيجاد الوقت لك لمواصلة مساعدة سيريس في بحثها أيضًا”.
حدق في وجهي بعينان واسعتين ومبللتين قبل أن يخلع نظارته ويمسحهما بالجزء الخلفي من ذراعه.
“بالتأكيد” رد بينما يتحسس العدسات السميكة فوق عينيه.
توقف أنفالد على بعد عدة أقدام وبدا متجهمًا “طلبت السيدة سيريس حضورك ليرا”.
لم أقم بالسؤال عن السبب فحقيقة أن سيريس تطلبني تعني أن الأمر يتعلق ببعض الصراع بين الوافدين الجدد وهؤلاء الجنود الألكريان الذين أرسلهم الوصي ليوين إلى بقايا إيلنوار.
“تعال إذن أيها المساعد” قلت بإستخفاف قليلًا على الرغم من أنني لم أنظر إلى الوراء إلا أنني سمعت خطوات سيث المتوقفة خلفي “ما الأمر الآن يا أنفالد؟ بعض الإنشاءات الجديدة تقاطع وجهة نظر الأشخاص ذوي الدماء العليا للبقايا الرمادية التي لا نهاية لها؟”.
“من الأفضل ألا أغير وجهة نظرك في الأمر” سخر أنفالد.
من باب الفضول تبعت الصاعد في صمت حتى وصلنا إلى المدخل المفتوح لقاعة إجتماعات القرية – عبارة عن مبنى صغير تركناه فارغًا للإجتماعات – وما إلى ذلك فقط لجعل الأمور تبدو أكثر رسمية.
تنحى أنفالد جانبًا ولوّح لي بالدخول لكن أثناء مروري إستغرقت عيناي لحظة للتأقلم مع الضوء الخافت إلا أنني بدأت أفهم ما بدا وكأنه جدال طويل الأمد.
“تفتقر دماء فاسير إلى المكانة التي تمكنه من المطالبة بالسلطة على جنود الدماء العليا أينسوورث” الصوت القوي لرجل كبير السن يقول “لم يتبق لدينا سوى القليل لن أجعلهم يقومون بواجبات أخرى بينما يجب عليهم حمايتي وزوجتي ووريثي هل تفهمين؟، بعد كل ما فعلناه من أجل هذه الحركة وكل ما ضحينا به يُطلب منا الآن أن نركع لهذا… هذا…”.
حدقت قليلاً وتعدلت عيناي بما يكفي لرؤية بالدور فاسير وهو يحاول عدم تحريك عينيه بسخرية.
“أنا لست… آه بالتأكيد المنجل سيريس يمكنك أن تري أنني أحاول فقط…”.
“مرة أخرى أود أن أذكر الجميع بأن الدم ليس له أي وزن على الإطلاق في هذه الأمة الجديدة من الألكريان” قاطعه كوربيت من الدماء العليا دينوار.
‘لا، فقط كوربيت دينوار’ ذكّرت نفسي والفكرة عززتها كلمات الرجل نفسه.
“قبل يومين إتفقنا جميعاً على المضي قدماً متساوين” إختتم كلامه قائلاً.
تحركت إلى جانب بالدور الذي عملت معه عن كثب منذ أن تم إنشاء هذا السجن الذي تحول إلى ملجأ لجنود ألاكريا، أرثر نفسه كلف بالدور مسؤولية جمع الألكريان الأوائل من الجيوش المحيطة ببلاكبيند وتوجيههم إلى الأرض القاحلة.
لم يتبعنا سيث بل بقي بجوار الباب.
إرتفعت حواجب سيريس قليلاً عندما قدمتني وشرحت “ليرا بعض الذين جائوا معي يشككون في قيادة بالدور فاسير… أعتقد أن إيكتور إقترح هنا أن إبن عم من الدرجة الثانية من الدماء العليا من الدرجة الثانية ليس له الحق في إعطاء الأوامر لأصحاب الدماء العليا مثل فروست وآينسوورث، يذهلني أن هذا ربما هو الوقت المناسب تمامًا لرؤية بعض الأدلة على هذا المفهوم المجتمعي الجديد لدينا… وهو مفهوم لا يكون فيه “نقاء” دم الشخص كما يحدده فريترا هو في الواقع قيمة المرء”.
“يجب أن يكون قادة هذا المجتمع أشخاصًا إكتسبوا الحق من خلال العمل والذين ينظر إليهم من أقرانهم كقادة عن طيب خاطر مع القبول والأمل والأهم من ذلك كله الثقة” أومأت برأسي في الفهم “بالدور فاسير هو ذلك القائد هنا لأنه وضع الأسس للمعسكرات الأولى وجمع بقايا جيش ألاكريا المهزوم واليائس والغاضب، منعهم من الإنهيار لفترة كافية لتشكيل خط أنابيب للطعام والماء وكذلك بناء حفنة من الهياكل المتداعية لمنع الشمس من خبزهم”.
إلتقيت بأعين من حولي بدوري: إيكتور إينسوورث، لارس إيزنهارت، كوربيت دينوار، ساحر يُدعى أودون بلينزنرون الذي عمل بشكل وثيق مع بالدور، وبالدور نفسه الذي إستدار ليعطي إبتسامة ضعيفة.
“طوال حياتكم بأكملها حملتم دروعًا من القلق مع الأخذ في الإعتبار الآثار المترتبة حتى على أصغر التفاعلات مع أصحاب الدماء الآخرين، كنتم تكافحون من أجل إفساح المجال لأنفسكم ولدمائكم – عائلاتكم – في خضم الصراع الذي لا ينتهي أبدًا لتغذية الهيجان الذي هو سياسة الألكريان، الآن هو الوقت المناسب لوضع تلك الدروع أيها السادة لم تعودوا تتنافسون على منصب بين أقرانكم بل تعملون على ضمان بقائنا الجماعي”.
ألقيت نظرة سريعة على سيريس لقياس رد فعلها وهي حركة إنعكاسية لم أستطع منعها على الرغم من الرسالة التي أوصلتها للتو للآخرين، سوف يستغرق الأمر منا جميعًا أكثر من يومين لوضع التسلسل الهرمي جانبًا مدى الحياة.
عقد إيكتور أينسوورث ذراعيه ونظر بعيدًا وبدا أن لارس يأخذ إشاراته منه بينما كوربيت دينوار يظهر وكأنه شخص متحمس ومتعب للغاية، أودون وبالدور كلاهما جنديان لم يعتادا على هذا النوع من السياسة لذا بقيا ينظران لبعضهما بشكل غير مريح.
إقترحت متجهة نحو المدخل “ربما يمكننا أن ننقل هذه المحادثة إلى القرية” أشرت إلى سيث ليمر من أمامي “هناك آخرون أود أن أعرفكم بهم يعتبرون قادة بين الناس هنا ليس بفضل مركزهم العسكري أو سلالتهم ولكن من خلال عملهم الجاد وموهبتهم وتضحياتهم الذاتية”.
على الرغم من أن التوتر لا يزال واضحًا خاصة من إيكتور فقد تبعوني جميعًا مع سيث لضوء الشمس.
“ظل سحرتنا ذوي الأحرف الرونية من النوع المتقارب للأرض لا بقدرون بثمن” قلت مشيرة إلى المبنى الذي غادرناه للتو “مع حفنة من سحرة الماء في البقايا الذين لديهم خبرة سابقة في تشييد المباني وإستحضارها، ربما لا تدركون ذلك الآن ولكن الفعل البسيط المتمثل في بناء عدد قليل من المنازل كان ضروريًا تمامًا لنجاحنا هنا… نحن ندين بالكثير لأولئك الذين لهم دور فعال في هذه العملية”.
قام إيكتور ولارس وكوربيت بفحص الهيكل دون حماس ومن الواضح أنهم ليسوا مفتونين بالتفسير، علي أن أعترف أن المبنى المربع البسيط المكون من الطوب الرمادي المصنوع من الرماد – والمدعوم بأخشاب من غابة الوحوش والمسقوف ببلاط متشابك متموج من الطين عديم اللون – لم يرسم صورة شاعرية خاصة للقادمين من مناطق ضخمة، تم تصميم القصور من قبل أفضل المهندسين المعماريين في ألاكريا لكن الوظيفة في هذه الحالة أكثر أهمية من الشكل بعدة مرات، في النهاية تمنيت فقط أن يروا الهدف من هذه الهياكل وأهمية الأشخاص الذين يقفون خلفها، بعد أن منحتهم لحظة لفحص المبنى قدتهم إلى قطعة أرض زراعية قريبة وعرّفتهم على شقيق أودون المدعو إيدير، يعتبر جندي تمركز سابقًا في زيروس حيث أصبح الآن أحد أكثر مزارعينا كفاءة في زراعة التربة الخصبة التي تم جلبها من غابات الوحوش.
“جيش كامل تحت تصرفنا ومع ذلك فإننا نعاني من نقص البنائين والمزارعين” تمتم لارس لإيكتور.
“على العكس من ذلك لدينا ما يكفي من الإثنين معًا إنهم يفتقرون فقط إلى التدريب والممارسة ولحسن الحظ يتوفر الكثير من ذلك لأي شخص يرغب في تجربة شيء جديد” وبخته قائلة.
تحرك لارس بشكل غير مريح وتنحنح يبدو أنه لم يكن لديه أي شيء ليقوله لكن عندما إبتعدنا عن قطعة الأرض الزراعية تغير شيء ما في الهواء.
شعرت سيريس بذلك أولاً حيث إستدار رأسها نحو الجنوب وتقدم سيلريت الذي يحيط بها مثل الظل بسرعة إلى موقف دفاعي أمامها، تابعت خط نظراتهم الجادة في أشجار غابة الوحوش لكن بعد لحظة ضربني الشعور أيضًا.
توقيع مانا قوي للغاية ومصحوب بنية سحق يائسة يندفع نحونا بينما يزداد قوة في كل لحظة.
مرت موجة من خلال السحرة المتجمعين مما أدى إلى مسح كل فكرة عن المحادثة التي كنا نجريها ولكننا لسنا وحدنا الحاضرين، هناك إيدير وثلاثة آخرون يعتنون بالأراضي الزراعية مع العشرات من الألكريان يتجولون هنا وهناك، بعضهم يحمل الأخشاب إلى البناء الجديد والبعض الآخر دلاء من الماء وبعضهم يتسكع فقط غير متأكد مما يجب فعله، في مكان قريب هناك عدد قليل من الأطفال يجلسون مع فتاة ذات شعر ذهبي قصير تعلمهم عن السحر.
شعروا جميعا بذلك وبجانبي أمسك سيث ميلفيو بكمي بينما يداه ترتجفان.
مع تزايد الضغط لم يستطع البعض إلا التراجع وهم يترنحون من ثقله حتى على هذه المسافة، كنت قلقة من رؤية آخرين يهربون منه بفكوك متراخية ووجوه منتظرة بدون أمل.
‘حمقى’ فكرت شاردة بينما صوتي الداخلي بعيد وهادئ كما لو أن عقلي قد تراجع بالفعل بعيدًا عن القوة التي تقترب.
إنطلقت سيريس إلى العمل حيث أخذت القيادة وأصدرت الأوامر “آينسوورث ودينوار إبدأ بجمع الدماء وتأكدا من بقاء الناس معًا مع الحفاظ على النظام ولا تسمحا للذعر بإجتياح أعدادنا، أولئك الذين يستعدون بالفعل لمغادرة القرية عليهم التحرك بسرعة لذا فاسير قم بتنظيم تراجع إلى الأراضي القاحلة، أي شخص يبقى هنا يمكن أن يشكل خطراً علينا أو على نفسه قوموا بالإنسحاب شرقًا وغربًا بإتجاه البلدات التالية”.
تقدمت بضع خطوات للأمام وسحبت سيث معي بينما أحدق في الأشجار بحثًا عن مصدر التوقيع.
“هناك” قلت على الرغم من أن الصوت خرج بالكاد همسًا.
مخلوق مجنح ضخم وأسود كسماء الليل طار في الأفق مجتاحا الأشجار على إرتفاع منخفض وفي ثوانٍ تحرك فوقنا مصدرا صرخة قاسية من فمه الهائل.
‘فريترا في حالته المتحولة بالكامل…’ ذهني ترنح.
رؤية البازيليسك يحلق في سماء ديكاثين… لم يتم رؤية مثل هذا الشيء في ألاكريا في حياتي لكن رؤية واحد هنا الآن… يبدو أنها قمة الإستحالة.
كل ما فكرت فيه هو أن هروب سيريس من المقابر الأثرية قد دفع أغرونا أخيرًا إلى إتخاذ إجراءات متطرفة وإنهاء أمتنا الناشئة من الجنود والمتمردين، هبط البازيليسك في أحد أحواض المزرعة وتحركت أقدامه المخلبية على الأرض ممزقة المحاصيل ومرسلا المزارعين إلى نهايتهم، كادت صيحاتهم تختفي وسط الضجيج الضخم لأن أجنحته تضرب ضد الهواء الدافئ في وقت متأخر من بعد الظهر، تعثر سيث وسقط إلى الخلف لكنني لم أتمكن من إبعاد نظري عن منظر البازيليسك الذي أمامي فحتى من خلال خوفي هذا مشهد يستحق المشاهدة حقًا.
جسده عبارة عن جذع أفعواني طويل مطلي بحراشف سوداء اللون ومبطن بأشواك من نهاية ذيله السوطي إلى قاعدة رقبته السميكة، تبرز ستة أطراف قوية من الجسم الطويل وينتهي كل منها بمخلب مائل إلى مخالب مثل المناجل، أربعة أجنحة رفيعة مصنوعة من الجلد تنمو من فوق الأطراف الأمامية وتلتف الآن حول جسم البازيليسك المتلوي مثل الدرع الواقي، تحرك رأس الزاحف من جانب إلى آخر وحدق في القرية بينما فتح فمه وإنغلق ليكشف عن الفراغ المظلم لمرئه، الصدمة المصاحبة تمزق الهواء مثل تحطم الحجر ورائحة اللحم النيئ والكبريت تجعل معدتي تتحرك بعنف.
تأرجخ ذيله ذهابًا وإيابًا مما أدى إلى قذف شجرة ذابلة فوق رؤوس الأطفال المصدومين.
عيونه الحمراء المشتعلة مع أربعة على كل جانب من الوجه الممدود فتشت كل شخص حاضر.
‘كما لو أن الأمر يتعلق بتحديد من منا سيأكل أولاً’ لم أستطع إلا أن أفكر في هذا.
هالة البازيليسك المحمومة تضربنا مثل المد القادم في صباح عاصف.
جامح وغير منضبط ولم تكن نية مسلحة لكائن أعظم بل مظهرًا جامحًا ل… الرعب؟ من الصعب أن أعرف خاصة وأن ثقله يسحقني في مكاني.
لم تصدر أوامر سيريس بعد هبوط البازيليسك المفاجئ ولم أعد أستطيع التمييز بين الخشوع والرعب على وجوه من حولي، تم تجميد الجميع وكل زوج من العيون مقفلة على الأزوراس بحيث لم يتحرك أحد على الإطلاق.
لم يكن هناك أحد بإستثناء سيريس التي سارت إلى الأمام غير متأثرة بطريقة ما بالضغط.
إنقلب رأس الزاحف الذي كان كبيرًا بما يكفي لإبتلاع عشرة أشخاص صغار في لقمة واحدة وركزت جميع العيون الثمانية عليها.
“المنجل…” كان صوته مثل شفرات المنشار التي تمزق الخشب الصلب وتقص المعدن تحت رياح الإعصار.
حتى سيريس لم تستطع إخفاء خوفها تمامًا عندما واجهت البازيليسك لكن وقفتها ثابتة جدًا مع ذقن مرتفع.
“السيادي أولوداري فريترا…”.
شعرت بأن معدتي تنقبض بشكل مؤلم ليس فقط أي بازيليسك بل ملك تروسيا.
إلتقيت به من قبل ولم أتعرف على المانا الخاصة به في هذا الشكل لكن هذا لم يكن ما جعلني أشعر بأنني على وشك المرض، لم يكن هناك سبب لظهور السيادي في ديكاثين ولم يكن الملك الأعلى ليرسل أولوداري ليقضي علينا ولم يكن أولوداري ليقرر تولي مثل هذه المهمة بنفسه، ببساطة لم تكن الطريقة التي تمت بها الأمور نادرًا ما ترك السياديين ممتلكاتهم فهم مصابين بجنون العظمة والتملك، كما أنهم يقظين وحذرين على الدوام وبما أن أولوداري هو آخر السياديين ينبغي عليه إتخاذ كل الإحتياطات ضد…
آخر السياديين.. يفر إلى ديكاثين…
‘ماذا يعني ذالك؟’ سألت نفسي مكافحة من أجل التمسك بالمعنى.
بدأ في التحول وتقلص عندما تحولت الأطراف القوية إلى أذرع وأرجل وجسد أفعواني يتنازل إلى الشكل المستقيم لرجل، سقطت الأجنحة خلف ظهره المنحني لتصبح جزءًا من أردية القتال الداكنة الملتصقة بإطاره الرقيق، تسطّح الوجه المدبب ذو الفجوات حتى أصبح من الممكن التعرف على وجه أولوداري الشاحب وعيناه الياقوتيتين تحدقان بنا بينما قرناه اللولبيان يشيران نحو السماء فوقهما.
أولوداري في المناسبتين اللتين رأيته فيهما شخصيًا كان عديم الإنفعال ومركز أما الآن فهناك جنون ووحشية في عينيه لم أتخيل رؤيتها من أزوراس، وجهه ملتوي بخوف واضح وغير متوقع لدرجة أنه من الصعب النظر إليه لأن رؤيته جعلتني أرغب في الهروب بدون النظر إلى الوراء أبدًا.
إندفع أولوداري إلى الأمام ولم أستطع إلا أن أتعثر غير قادرة على الحفاظ على رباطة جأشي.
تركتني حواسي بينما أكافح من أجل فهم ما كنت أراه حيث بدا الأمر في نظري كما لو أن السيادي ألقى بنفسه عند قدمي سيريس ويداه الشاحبتان المرتجفتان تخدشان أرجل رداءها، الكلمات الثغاء تخرج من حنجرته وبين أسنانه بينما ذهني يجمع معانيها معًا بكفاءة البيضة المسلوقة.
“المنجل سيريس… الأخير… أنا الأخير… سيقتلني أيضًا… أنا أعرف ذلك تمامًا! يجب عليك مساعدتي… هربت… أردت العودة إلى إفيوتس لكنني لا أستطيع… البوابة… الصدع… أستطيع أن أشعر به لكن لا أستطيع العثور عليه! يجب أن تساعديني أنا… أنا آمر بذلك! لو سمحت؟”.
–+–
ترجمة : Ozy.
مدعوم من طرف : Youssef Ahmed.