البداية بعد النهاية - 430 - مقاومة
– سيريس فريترا :
حدث ذلك ببطء في البداية بعيون واسعة محتقنة بالدم تتجه نحوي وتبحث في الظلام عن مصدر الهالة التي شعروا بها وهي تبلد حواسهم وتسيطر على قلوبهم، عندما رأوني صارت نظراتهم المنذهلة واحدة تلو الأخرى تنجذب حتمًا إلى الأسفل أين الأداة الدموية التي أمسك بها في يدي اليمنى، إنفتحت الأفواه في حالة رعب ولكن مهما كانت الكلمات التي قد يقولونها فإنها ظلت في الحلق الضيق، إنزلقت الأدوات المنسية من الأصابع العرجاء محدثة قعقعة على الأرض وإندلعت هزة في الوعي الجماعي لشعب غير مهيأ لفهم ما يرونه، في أعين عاصفة الإنتباه هذه تحركت ببطئ غير متسرعة في مسار وعر تحت قدمي مع أردية بيضاء متدفقة تتوهج مثل المنارة في الظلام الصناعي.
تجمد كل عامل منجم ومزارع وصاعد مبتدئ قبل أن يتفرقوا سريعًا من أمامي، هؤلاء الأقرب تراجعوا إلى الوراء ووضعوا بشكل غريزي مسافة بينهم وبين القوة الملموسة المنبثقة عني، إنجذب الآخرون إليها مثل العث إلى اللهب متناسين مهامهم الدنيوية حيث طغى الفضول والرهبة على شعورهم بالحفاظ على الذات، إمرأة ممتلئة الجسم بشعر رقيق وغبار رمادي يلوث وجهها أطلقت صوت فرحة عندما إستقرت عيني عليها سارع أولئك الأقرب إلى الوراء، لم أبتسم لكنني سمحت لثانية من التواصل البصري والتحديق بعمق فيها مؤكدة لها أنها شوهدت، لم يستطع الآخرون إبقاء العداء في وجوههم – أولئك الموالين لأغرونا أو الذين صدقوا الدعاية السيئة التي تم بثها عني – لكن لم يكن لدى أي منهم الشجاعة لإعطاء صوت لمشاعرهم أو إعاقة تقدمي.
ركض بعضهم أو بالأحرى الأذكى منهم.
بحلول الوقت الذي وصلت فيه عبر البوابات إلى المستوى الثاني صاروا بالفعل في حالة من الفوضى حيث تدافع الحراس للعثور على مجموعاتهم القتالية والحفاظ على أي شيء يشبه التشكيل، ظلوا يصرخون على بعضهم البعض ولا يبدو أن هناك من يرغب في قبول مسؤولية القيادة، مسؤولو المقابر – الموظفون والمرافقون المسؤولون عن مراقبة البوابات – يقفون جانبًا ويفركون أيديهم بعصبية.
عندما أطلقت نيتي عليهم تباطأوا جميعًا إلى طريق مسدود حينها قام أحدهم بالصلاة لفريترا، رغبت في أن يسمعوني ويفهموني لذا كبحت جماح هالتي وتقدمت إلى مسافة قريبة، إنحرف الشيء الذي في يدي قليلاً عندما توقفت ما جعل الجنود والحراس يشهقون، حدق نصفهم في وجهي بتوتر مع أسلحتهم أمامهم لكن نصفهم لم يستطع شد أعينهم بعيدًا عن القطعة الأثرية.
وجد أحد الحاضرين شجاعته – رجل كبير السن ذو رأس أصلع وشارب طويل رمادي اللون يرتدي الجلباب الرسمي لموظف المقابر الأثرية – وأخذ بضع خطوات مهتزا نحوي بينما يرفع ذقنه وعيناه تتجنبان يدي بعناية.
“المنجل سيريس فريترا” توقف مؤقتًا وإبتلع لعابه بشدة “أنت رهن الإعتقال لإرتكاب جرائم ضد ألاكريا بأمر من صاحب السيادة!” قال محاولا بناء الثقة أثناء حديثه.
عندما إبتسمت له تحطمت تلك الثقة مثل الأسنان تحت الضربة القاضية، تراجع محاولًا أن يفقد نفسه بين المسؤولين الآخرين لكنهم تراجعوا أيضًا وضحوا به في محرقة إنتباهي، لم أكن هنا للتنمر أو قتل السحرة المتواضعين حتى أولئك الذين لا يرون أنني إلى جانبهم.
“لم آت إلى هنا من أجل إراقة الدماء لذا لن يموت أحد منكم إلا إذا أصررتم على ذلك، أهربوا من المقابر الأثرية وعودوا إلى منازلكم حيث دمائكم”.
ومع ذلك لم أستطع أن أشعر بالفعل الصالح حيال الإختيار الذي أعطيه لهم فأنا منجل منذ فترة طويلة جدًا وأستطيع أن أرى الفخ بداخله، هذا مجرد إختيار لكيفية الموت فإما يبقون ويقاتلونني في منافسة من جانب واحد ميؤوس منها أو يهربون وينتظرون أن يتم تعقبهم وإعدامهم من قبل القوات الموالية.
إستسلم جميع غير المقاتلين وهربوا مبتعدين مثل الحشرات التي تعرضت فجأة وبشكل غير متوقع للضوء، تبادل الحراس النظرات القاتمة لكنهم بقوا فقد فهموا الإختيار حينها صاح رجل طويل ليتحول الجنود إلى مجموعات قتالية، تم رفع الدروع ضدي السحرية والعادية ما جعلني أعدل وضعيتي وبصراخ آخر بدأت التعويذات في الطيران مضيئة المنطقة المعتمة بألوان زرقاء وصفراء وحمراء زاهية، لامست رماح النار وشفرات الرياح حاجز المانا الذي يكسو جلدي وثيابي وإنحرفت دون ضرر، تموجت المانا بظل داكن مما أدى إلى تحويل الجزء الخارجي من جسدي إلى اللون الرمادي حينها تباطأت النيران ثم توقفت.
تركت نبضات القلب تمر ثم رفعت يدي الحرة للأمام حيث إنسكبت سحابة سوداء من راحتي وظهرت فوق المهاجمين فجأة، إندفعت إلى داخلهم ومن خلالهم أين أحرق سحر الفراغ الخاص بي المانا بداخلهم إلى أن إنهاروا من رد الفعل العنيف ومعظمهم فقد للوعي، حدقت في وجه القليل منهم على الأرض بينما يتذمرون أو يختنقون متوقعين الموت لكنني مررت من أمامهم وتركتهم، منحهم الخيار في كيفية الموت أمر خاطئ فهذه الطريقة التي يعمل بها أغرونا لكنهم إختاروا القتال، ربما هم مخلصين بشكل أعمى لأغرونا أو ربما لأنهم محاصرين بشكل ميؤوس منه في نظام ولدوا فيه وعاشوا كل ثانية من حياتهم داخله.
هل يعرفون حتى أن هناك عالمًا خارج الجدران شديدة القرب يضغط عليهم؟… خطر ببالي أنهم لم يتمكنوا من رؤيته على الأرجح لكن إستطعت أن أرى ويمكنني الإختيار أيضًا… بإلقاء نظرة سريعة على حقل السحرة الساقطين – الساقطين لكنهم أحياء – قمت بتنشيط إحدى البوابات إلى المستوى الثاني ودخلت.
وجدت المستوى الثاني بالضبط كما توقعته فالفناء الذي يحتوي على بوابات الصعود والنزول – ويزين نهاية الشارع الطويل الذي يمر عبر قلب المنطقة – بمثابة إندفاع للنشاط المنظم، مئات السحرة أو ربما أكثر طوقوا الفناء ورفعوا الأسلحة منشطين التعويذات ومحاصرين البوابات بينما هناك آخرون يسارعون لإنشاء سلسلة من الأجهزة في نصف دائرة، هناك مجموعة صغيرة من الناس باقية حول أطراف الفناء خارج التطويق وفي ظلال المباني القريبة، صُنعت الأجهزة من حاويات معدنية ممتلئة باللون الأزرق وتحتوي على بلورات مانا كبيرة تم نحتها بعناية في أوعية مقعرة، إمتدت الأسلاك الثقيلة من واحدة إلى آخرى وربطتها جميعًا معًا نحو خزان زجاجي مليء بالسائل الأزرق الفقاعي.
صدم العديد من السحرة عند ظهوري ووجهوا الأسلحة نحوي.
“المنجل سيريس فريترا!” صرخ ساحر بشعر أسود ولحية مشذبة جيدًا بينما يلقي التحية.
إستعاد الباقون الإنتباه وإتبعوا حذوه.
“سولا يبدو أن الأمور سارت كما هو مخطط لها”.
أومأ سولا القائد الأعلى لصاعدي قاعة كارجيدان بقوة “نعم المنجل سيريس إن المقاومة محدودة” أومأ برأسه إلى جثث قليلة ملقاة في مكان قريب “القتال كان أسوأ في أماكن أخرى لكن جهودنا لإعداد… أيا كان… لم يتم إعاقتها وهي شبه مكتملة”.
قام رجل آخر لم يكن يرتدي درعًا أو ثيابًا للقتال بصدر عاري يعرض بفخر جلده البرونزي وشكله المحفور بالركض والإنحناء نحوي بسرعة.
“توقيتك مثالي كما هو متوقع” قال جيمون من الدماء المسماة غويد وهو ساحر أعلى من إيتري بحدة معتادة “تم تدمير جميع منصات إعوجاج تيمبوس في المدينة كما طلبت بإستثناء واحدة يتم الدفاع عنها حاليًا بواسطة الدماء العليا رينهورن، القتال شرس هناك لكنهم لا يستطيعون سوى الصمود ل10 دقائق أخرى قبل أن تتناثر جثث جنودهم على أرضية المقابر الأثرية بينما يصبح السحرة خاصتي على المنصة”.
“مع تدمير منصات الإستقبال سيكون هذا هو طريقنا الوحيد للدخول والخروج” أضاف سولا مشيرًا إلى مجموعة من البوابات الدائمة التي سمحت بالمرور بين المستويين الأول والثاني.
يمكنني القول إنه يسعى للحصول على تأكيدات بأن الخطة لن تؤدي إلى وقوعنا في فخ أو يتم حصارنا.
“ليست الطريقة الوحيدة” قلت بدلاً من محاولة تهدئة الرجل.
إتبعت نظراتي خط الشارع المركزي إلى حيث يمكنني رؤية التوهج البعيد لبوابة الصعود الرئيسية حتى من هنا.
تسبب صوت إقتراب خطى لمدرع في إلتفات رأسي ويرجع ذلك في الغالب إلى وجود تأخير طفيف في كل خطوة، إنحنى سيليريت قليلاً حينها تراجع الصاعدان خطوة إلى الوراء مما أعطانا مساحة مع بقاء أعينهما على الأرض حيث تناثر الدم على وجه خادمي ودرعه.
“هل تريدين مني أن آخذ ذلك أيتها المنجل سيريس؟” سأل بلهجته المعتادة.
أنا متأكدة من أنني الوحيدة التي لاحظت الصلابة في كل من صوته ووقفته.
نظرت إلى العنصر الذي كنت أحمله خلال المستوى الأول من المقابر الأثرية: رأس مقطوع وفك مجمد مفتوح بسبب قسوة الموت مع لسان أسود منكمش مثل لحم مملح.
لم يظهر سيليريت أي حساسية عندما قبل الملحق المعروض بل رفعه لينظر إلى عيون الميت ثم شق طريقه إلى بطارية المانا التي ستشغل القطع الأثرية التي صممتها.
تراجع بقية السحرة لأن عملهم إنتهى وكل شيء صار جاهزًا حينها وضع سيليريت الرأس في السائل الذي بدأ على الفور في التوهج ثم سرعان ما أخرج نفسه من المصفوفة، بدأت البلورات المنحوتة لكل جهاز في إصدار همهمة رنانة ثم توهجوا بلون مطابق للسائل الأزرق وأخيراً ألقوا موجات مرئية من المانا عبر الهواء ملأت البوابات بالطاقة الخام، التأثير فوري حيث إهتزت البوابات المتلألئة وإرتجفت حتى صارت أسطحها المتغيرة ببراعة فجأة حية مع موجات الصدمة والتصدعات متعددة الألوان، تدحرجت التموجات بعيدًا عن إطار البوابة وإرتدت في كل إتجاه مرة واحدة عبر جميع البوابات.
“أنت متأكدة من أن…” قاطع جيمون نفسه في منتصف السؤال.
كنت أعلم أننا لن نضطر إلى الإنتظار طويلاً لنرى دليلًا على أن القطعة الأثرية تعمل، إلتفت الصاعدون المحيطون وراقبوا مع إنضمام عدد قليل من الأفراد رفيعي المستوى – أنفالد من الدماء المسماة توربور وهارلو من الدماء العليا إدفان، كلاهما من كبار السحرة لفصيلي رابطة الصاعدين في أدغارد ونيرمالا بالإضافة إلى اللورد الأعلى فروست وحفيدته إنولا – الذين ظلا صامتين بينما يشاهدان منتظرين.
في غضون بضع دقائق تغيرت إحدى البوابات وتمددت للحظة ثم ذابت التموجات أين ظهرت شخصية بداخلها، توهج دراغوث بشكله العريض الذي يملأ البوابة بأكملها مع وجه متوتر مستعدا لإلقاء المانا لكنه إختفى بمجرد ظهوره، مرت دقيقة وظهر مرة أخرى بينما ينتقل داخل وخارج بواباب أخرى بسرعة كبيرة لدرجة أن مجرد الرمش يعني تضييعه، كرر محاولاته غير المجدية مع كل بوابة لكن البوابات تعرضت للإضطراب بسبب تشبع المانا ولم تكن تحافظ على إتصال قوي بما يكفي لإكمال الإنتقال، بمجرد وصوله إلى المستوى الثاني سيعود بالفعل إلى المستوى الأول بحيث لن يكون هناك طريق عبر البوابات طالما بقيت تحفتي في مكانها بدعم من مانا أورليث المتبقية.
بدأ البعض الآخر في الظهور أيضًا عدة مرات في وقت واحد لكن بعد دقيقة مرت التموجات عبر سطح إحدى البوابات – ظهر رجل نزع الجلد من الجانب الأيمن لوجهه وإختفى في لحظة – حتى توقفت محاولات الإختراق بشكل مفاجئ، إرتفعت الهتافات بقيادة إنولا من الدماء العليا فروست بينما بقيت بالقرب من البوابات لبعض الوقت مهنئة كل من جاء للحضور وأعطي الأوامر عند الضرورة، وصل موكب بطيء من حلفائي اللوردات الأعلى عندما تأكدوا أن القتال قد إنتهى وتم إلغاء تنشيط البوابات في محاولة للتعبير عن إمتنانهم، تحدثوا عن حفنة من التفاهات بينما يتجولون للحصول على تأكيدات بأنني أعرف في الواقع ما أفعله.
في النهاية وردت أنباء تفيد بأنه تم تدمير آخر منصات الإستقبال مما جعل من المستحيل على أي شخص إستخدام إعوجاج تيمبوس أو بوابة مخصصة للوصول إلينا… خطتي نجحت.
رفعت وجهي إلى السماء الصافية مستمتعة بالدفء الذي تسقطه على بشرتي – قضيت الكثير من الأشهر الماضية تحت الأرض في المختبرات أو المخابئ – من الجيد الوقوف تحت السماء المفتوحة حتى لو أنها مصنوعة من السحر، بقيت حفنة من المعدات بالإضافة إلى عشر مجموعات قتالية لضمان عدم محاولة أي شخص لأي شكل من أشكال التخريب، في نهاية المطاف لم يتبق سوى هؤلاء الحراس وأنا والمريض سيلريت في الفناء، قام الصاعدون والدماء العليا بواجبات أخرى أو عادوا إلى عقاراتهم ونزلهم للإحتفال والراحة.
لمس سيلريت ساقه المتألمة ومن الواضح أنه غير مرتاح لكني إنتظرته لكسر حاجز الصمت بيننا.
“هل أنت متأكدة من هذا؟” سأل أخيرًا بصوت منخفض.
بدأت في المشي وأشرت إليه ليتبعني حيث إنتقلنا إلى الطريق المركزي الواسع الذي إمتد دون إنقطاع إلى بوابة الصعود الأساسية أين المقابر الأثرية، شاهدنا الناس نمر من نوافذ المتاجر وشرفات النزل غير متأكدين مما يحدث.
لم نكن قادرين على التأكد من أن أنصاري فقط داخل المنطقة لكن بذل أتباعي أفضل ما في وسعهم، عملت جمعية الصاعدين عن قصد على إبطاء تدفق حركة المرور بينما ينشر الدماء العليا الشائعات ويشجعون أولئك الذين لا ينتمون إلينا على المغادرة حتى ولو مؤقتًا، العديد من الأشخاص الذين يعيشون داخل المنطقة أو أولئك الذين خدموا الإقتصاد أو المهتمين بالصعود طبيعيين أو يجهلون أفعالنا ضد أغرونا.
أنا متأكدة من أن البعض سيثبت في النهاية أنه معادٍ صريح لنا…
“هناك الكثير هنا خارج عن سيطرتنا” تابع سيلريت محولا إنتباهه بينما يراقب أي تهديدات محتملة “أساليبنا يمكن أن تسير بشكل خاطئ بطرق لم نفكر فيها حتى”.
“أنا أعلم” أجبت.
إذا جاءت هذه الحجة من أي شخص آخر سأشرح له أنه تم حساب كل متغير وكل طبقة من الخطة مصممة لتكون معصومة من الخطأ لكن سيلريت يفهم ما نواجهه تمامًا مثلي.
“ربما مع 10 سنوات أخرى للتخطيط سيكون بإمكاننا إتقان هذه المقامرة لكن هذه حرب يا سيلريت وعندما تقاتل الحكام فإن الوقت ليس في صالحك”.
“كل هذا يعود إلى ذلك أليس كذلك؟ الوقت…” توقف سيلريت وكذلك فعلت لأنظر إليه “إلى متى يمكننا تشغيل أداة التعطيل؟ متى ستعود كايرا مع آرثر؟ هل يمكننا الصمود لفترة أطول مما سيستغرقه أغرونا لإكتشاف طريقة للدخول؟”.
لم أذكره بما أنجزناه بالفعل – الإستيلاء على أكثر من نصف سيز كلار والهرب من جيوش أغرونا وإحراج ميراثه الأليف وقتل أحد ملوك عشيرة فريترا وحظره الآن من المقابر الأثرية – بدلاً من ذلك تركته ينفس عن مخاوفه.
“لقد واجهنا العديد من المخاطر في العقود الماضية سيريس ولكن هذا… يبدو أننا وضعنا أنفسنا في مأزق بلا مخرج” أخذ سيلريت نفسا عميقا ثم أضاف “أعتذر أنا لا أشك فيك…”.
رفعت يدي حينها سكت.
“تذكر نحن لا نحاول كسب هذه الحرب بل نقف فقط في مواجهة الطاغية لكن لا أعتقد أن هذا سيكون وضعيتنا الأخيرة لذا تحلى بالايمان”.
“في آرثر؟” سأل وحواجبه تتجعد في عرض نادر للإحباط الحقيقي.
“في الإنسانية… في المصير… في سيريس… إختر ما يناسبك” إبتسمت ونظرت إلى وجهه كما لو أنني أستطيع أن أمسح عبوسه “كل شخص يحتاج إلى الإيمان فهؤلاء “الحكام” الأزورس يعتمدون عليه للحفاظ على سيطرتهم على من يسمونهم الأدنى، يحتاجه الناس أيضًا – يحتاجون إلى الإيمان بشيء ما – إذا كنا نريد حقًا كسر قبضة أغرونا عليهم فنحن بحاجة لمنحهم مكانًا آخر ليُثَبِتوا فيه إيمانهم، حتى ولو لفترة قصيرة فقط من أجل نقلهم إلى العالم الجديد الذي نحاول بنائه”.
“وإذا متنا ونحن نحاول؟” سأل سيلريت ويبدو أن العاطفة قد إستنزفت منه.
“إذا سنموت بشكل جيد”.
—+—
– سيسيليا :
‘أين أنا؟’ تساءلت بينما أحس بشيء يتحرك تحتي.
سرير من الكروم والجذور المتشابكة يتلوى عبر أرضية حجرية فارغة ويدفعني ما يجعل معدتي تتأرجح، إتسعت عيني بينما أتتبع مسار الكروم: نمت على الأرض والجدران والسقف بلا بداية أو نهاية وأحاطت بي تمامًا وهي تتلوى وتنكمش حولي.
فقط الطريق إلى الأمام بقي مفتوحًا على الرغم من أنه يتضاءل لحظة بلحظة، بدأت في التدافع فوق الكروم لكن يدي وقدمي تُسحبان بإستمرار إلى الأرضية وفي كل مرة تمسك بي تهدد بعدم تركي، فقدت كل سياق الوقت لذا أسرعت في البداية على يدي وقدمي ثم على ركبتي وأخيراً زحفت إلى الأمام على بطني مثل الدودة، إستمرت الكروم والجذور بسحقي وخنقي بينما يدق قلبي في صدري ورئتي تكافح من أجل التنفس حيث شعرت أنني سأموت، فجأة أشرق لون أخضر زمردي مثل المنارة من مكان ما في الأمام حينها جذبت نفسي في يأس نحوه، ضغطت للأمام وقد إستغرق كل شبر الكثير من الجهد والطاقة لدرجة أنني تأكدت من أنني لن أنجح، هناك كرمة ملفوفة حول كاحلي وأخرى بذراعي الأيمن ثم كرمة سوداء مغطاة بالأشواك وصلت إلى حلقي.
إمتدت يد من الضوء – بدت قوتها الدقيقة مألوفة وشعرت كأنني أنظر في المرآة – أمسكت بها بقوة جنونية، في المقابل أحسست من اليد بنوع من الهدوء والقوة العنيفة – مثل التي إرتبطت بأغرونا – نقية وثابتة لا تتزعزع، من المفترض أن تُسحق يدي لكن بدلاً من ذلك تم سحبي عبر الكروم حتى إنزلقت على قطعة من العشب الدافئ بالشمس، ببطء ولسبب ما خائفة من النظر إتبع خط نظري الذراع النحيلة – القوس الرشيق للكتف والجلد الناعم غير المميز للرقبة بنصفه المخفي تحت الشعر الرمادي الفضي – أخيرًا قابلت العيون الفيروزية.
تيسيا إيراليث… وعائي…
“ما الذي يحدث؟” سألت محبطة من ضعف صوتي.
شعرت كأنني طفلة نائمة تقف أمامها لكن المرأة الجان مرتاحة تمامًا في قلب عاصفة من الكروم والجذور الخانقة.
“أين نحن؟”.
“في عقلك” أجابت ببساطة “أنت تحلمين وعقلك الباطن يحاول أن ينقل ما يحدث بداخلنا”.
تحرك جذع أخضر داكن يشبه الثعبان ما جعلني أتخذ خطوة عصبية نحو المركز والإضطرار إلى الوقوف على مسافة أقل من ذراع من تيسيا لمنع ملامسة الجدران المتحركة.
قمت بتمشيط خصلة شعر بني مغبر من وجهي غير متأكدة مما سأقوله.
“إنه حارس الخشب القديم” تابعت قائلة بينما تلقي نظرة حزينة ومدروسة حولها “إمتص جسمنا جوهر مانا الإندماج… لم أعلم قط أنه…” هزت رأسها في دهشة “عندما تتحلل النواة سيتم إطلاق إرادة حارس الخشب القديم وكذلك أنا…” هزت كتفيها كما لو أن هذه النقطة الثانية لا تعني لها الكثير “الإرادة غير المقيدة تتغذى على المانا المندمجة الآن في جسدنا إنه يمزقنا”.
“جسدي” كلمة (جسدنا) تطعنني مثل خنجر في كل مرة تقولها.
ظهرت إبتسامة بلا روح دعابة على أطراف شفتيها لكنني لم أستطع قراءة النية وراء تعبيرها وبينما نتحدث المساحة التي نقف فيها تتقلص، هناك نبضة مثل نبضات القلب البطيئة تمر عبرها كل بضع ثوانٍ ومع كل نبضة تنمو.
حاولت أن أغمض عيني راغبة في التركيز لكنني لم أستطع.
“كيف يمكنني إيقاف ذلك؟”.
شعرت بنار باردة في عيون الجان وهي تجيب.
“أنت تتحكمين فيه فقط…” توقفت بينما تراقب الكرمة المورقة تتفتح بجانب وجهي “لا يمكنك… وحش حارس الخشب القديم ليس مجرد مانا لتهيمني عليها سيستغرق الأمر وقتًا وتركيزًا وقليلًا من الحظ… ليس لدينا الوقت سيموت هذا الجسد خلال ساعة”.
صررت أسناني وتقدمت نحوها مهددة لكن عندما نظرت إلي بتسلية كأني مثيرة للشفقة شعرت فجأة أنني طفلة توجه قبضتها على شخص بالغ وكرهت ذلك.
“ستموتين أيضًا” بقيت أعاني من أجل الحفاظ على حواسي وعدم إفساح المجال لليأس “لا أعتقد أنك…”.
الكلمات التي علقت في حلقي عندما أتذكر مصارعتها للسيطرة على جسدي عندما هاجمني غراي في فيكتورياد.
“لا أريد أن أموت” إعترفت قائلة بينما تنمو الكروم على ركبتيها رغم ذلك راحت تجلس في وضع مريح بين النباتات المتلوية، بدلاً من النظر إليها بإحتقار وجدت أنني جالسة أيضًا على الرغم من أنني لم أبذل جهدًا واعًيا للقيام بذلك “لكنني على إستعداد لذلك فنحن أعداء يا سيسيليا سأكون مستعدة للتضحية بحياتي لهزيمتك وإذا كان بإمكاني مقايضة حياتي بحياتك ألن يستحق الأمر ذلك؟”.
“هذا ليس…” بدأت ثم توقفت مرة أخرى بينما أعض شفتي وأعاني من أجل الكلمات.
من الناحية الإستراتيجية هي على حق… ليست شخص بل مجرد وعاء لتناسخي أما أنا فالإرث…. إذا ضحت بنفسها هنا لتدمرني…
“من فضلك…” توسلت في همس خشن ومددت يدي إلى يديها “لقد سُرقت حياتي مني كل ذلك بسبب حادث ولادتي وهو شيء لم أستطع السيطرة عليه، أنا لم أطلب أيًا من هذا مطلقًا أريد فقط حياتي يمكنك أن فهمي أليس كذلك؟” إكتشفت فكرة وبدأت أتحدث بشكل أسرع “في النهاية سوف يعيدني أغرونا إلى عالمي الخاص – أنا ونيكو أما أنت… يمكنك إستعادة هذا الجسد عندما أرحل! أعدك بذلك سأجعل أغرونا…”.
أطلقت تيسيا ضحكة موسيقية صغيرة ثم غطت فمها ونظرت إلي بمزيج مقزز من المرح والشفقة “النجوم في السماء* أنت لا ترين السخرية أليس كذلك؟”.
(مثل يا إلهي لكن بأسلوب الجان)
جلست منتصبة ونظرت إلى الجان “أنت لا تفهمين أي شيء فليس لديك أي فكرة عما مررت به”.
تجعدت حواجبها مع تلاشي التسلية في إبتسامتها تاركةً الحزن فقط “أي شيء فعلته من قبل – فكرة خطرت في بالك – ليسوا سرا عني”.
إبتلعت لعابي بشدة غير قادرة على تفسير البرد المفاجئ والخوف اليائس الذي يلف صدري.
“الكثير عن آرثر منطقي الآن بعد معرفة… كل شيء” إلتصقت كرمة كثيفة مثل ذراعي حول خصر تيسيا كأنها تعناقها وقد قطفت منها زهرة ذهبية ولفتها بأصابعها بينما تتكلم “نضجه وثقته بنفسه حتى عندما كان طفلاً… إعتقدت أنك ستكونين نفس الشيء بعد أن عشت حياتين لكن…” قابلت عيني “أنت طفل ضعيف”.
بدأت التفكير في رد لكنها إستمرت في الكلام “لم يكن لديك حياتان ولا حتى حياة واحدة هذا هو سبب عدم قدرتك على رؤية ما يحدث لك… أنت تعلمين بالطبع لكنك لا ترين”.
حاولت جمع المانا ولا أريد أي شيء سوى حرق روح الجان من ذهني لكن سحري إختفى وصرت عزلاء وفارغة… أسوأ كابوس لي يتحقق.
في حالة اليأس لم ألاحظ أن الكرمة تلتف حول ذراعي الأيمن عندما أدركت أخيرًا ما يحدث تراجعت للخلف لكنها شدتني سريعًا، في كل مكان هذه المجسات الخضراء الزاهية تتفتح بأزهار قرمزية وتتعلق حول ذراعيّ ورجليّ ثم تلتف حول حلقي، شاهدتني تيسيا بحزن حينها أردت أن ألعنها أو أتوسل إليها لكنني لم أستطع فعل أي شيء لأني أصبحت مشلولة، حارس الخشب القديم يخنقني سواء في الحلم أو الواقع أنا أموت ولم أصدق ذلك، شعرت أنه بلا هدف وفارغ جدًا من المعنى فعلى الأقل موتي في الأرض هو خياري والطريقة الوحيدة التي يمكنني بها السيطرة على نفسي لكن هذا…
إستيقظت….
الغرفة قاتمة وفي الضوء المتذبذب بلطف لشعلة مشتعلة بدت الظلال مثل أشجار الكروم التي تزحف على الجدران، إنكمشت منهم وإشتعل جسدي لذا لهثت من الألم لكن حينها داعبت يد ناعمة على شعري بينما الوجه يلوح في الأفق، هناك كثافة مخيفة في الطريقة التي يفحصني بها أغرونا لكنني لم أستطع فهم العاطفة وراء المظهر.
“ماذا…؟” حاولت أن أسأل لكن حلقي جاف وعضلات رقبتي ما زالت تؤلمني من حيث خنقتني الكروم… إلا أن ذلك حلم… مجرد حلم.
“بهدوء عزيزتي سيسيل فقد كافح جسدك للتعامل مع كل من الإندماج والإفراج عن الوحش ،لكنك مررت بأسوأ ما في الأمر” ربت أغرونا على رأسي وتحدث بنبرة منخفضة ومهدئة بينما تحثني أصابع مانا غير مرئية وتدلك عقلي للمساعدة في تهدئتي “لا تشكٍ في نفسك لقد قمت بعمل رائع”.
خضعت لتربٍيته الهادئ ما جعلني مثل قط يتوسل ليكون حيوانًا أليفًا ومع إدراك هذه الحقيقة شعرت بالمرض، لأني أضعف من أن أقاوم حركت خط نظري عبر الغرفة وأدركت أننا لسنا وحدنا فهناك العديد من السحرة الآخرين، وقفوا حول الطاولة أو في الظل – يبدو أننا في مختبر أو ورشة عمل من نوع ما – لكنني لم أتعرف عليها.
“من… أين…؟” مرة أخرى خرجت أفكاري وصوتي قبل أن أتمكن من إنشاء فكرة كاملة.
لوح أغرونا بيده وسرعان ما بدأ السحرة الآخرون بالخروج من الباب المفرد “كنا نعمل على الحفاظ على جسدك متماسكًا بينما تقاتلين من أجل السيطرة على المانا بداخلك”.
عبست محاولة تذكر الحلم – الشعور بجسدي تمزقه إرادة الحارس وما قالته تيسيا – كل شيء بدأ يتلاشى الآن ومع ذلك لم أستطع التخلص من الإحساس بأن شيئًا ما خاطئ.
قلت مراقبة آخر السحرة يتلاشى مثل الحواف الممزقة لحلمي “إنك تخفي عني شيئا ما”.
خف تعبير أغرونا ونظر إلي كما إعتقدت أنه من المفترض أن ينظر الأب إلى إبنته “أنت مرتبكة سيسيل وبحاجة إلى وقت للراحة والتعافي”.
لم أستطع أن أجادله ليس الآن وليس هكذا….
تحرك شيء ما بداخلي حينها شعرت بوعيها موجود تحت السطح يشاهد وينتظر بفضول وحذر في نفس الوقت – كما أن هناك حارس الخشب القديم أيضًا لكنه صار سهل الإنقياد، ضغط عقل تيسيا على عقلي مثل الصداع النصفي لكن الوحش جلس ثقيلًا في بطني وجعلني أرغب في التقيؤ.
‘لماذا منعته من قتلي؟’ سألت غير متأكدة مما إذا كانت روح تيسيا غير المجسدة ستكون قادرة حتى على الرد.
بعد وقفة طويلة – ظننت أنها ربما لا تستطيع أو لا يمكنها أن ترد علي – بدا صوتها في رأسي واضحًا ومشرقًا مثل الجرس الفضي: ‘لديّ وعد للوفاء به’.
إبتلعت لعابي بشدة ولكن لم أستطع ترك الأمر على هذا النحو.
‘عندما كافحت من أجل السيطرة من قبل كنت تحاولين قتلنا أين كان هذا الوعد إذن؟’.
لم تجب.
“تعالي الآن دعيني أوصلك إلى غرفتك” قال أغرونا وكدت أنسى أنه هناك “إن ما فعلته مذهل وهو إنجاز لم ينجح في تحقيقه شخص أدنى منذ وقت طويل جدًا وقريبًا ستتاح لك الفرصة لإختبار مدى قوتك”.
شعرت بألم في الرأس وتهيج في المعدة لذا تركت نفسي أتلقى المساعدة من على الطاولة والتي أدركت أنها مغطاة بأحرف رونية غير قابلة للفهم، رمشت عدة مرات وحاولت قراءتها مرة أخرى لكنها لم تكن مثل أي شيء رأيته من قبل لذا ركزت للنظر إليهم، جسدي إقشعر منهم وقتها فهمت أن هناك خطأ مجددا… نغمة أغرونا… الأحرف الرونية… الأحلام…
بمهارة قمت بتشكيل بعض المانا العالقة في الرون المطبوع بالجدول وملأته بذاكرة تلك الأحرف الرونية والغرض منها، لم يكن لدي نواة لتوجيه المانا لكن لا يبدو أنني بحاجة إلى واحدة فقد تدفقت المانا من خلالي بسهولة مثل الدم في عروقي، غريزيًا غرست في عضلاتي وقدمت لي القوة في جسدي المرتجف فقد صرت على دراية بذلك بطريقة لم أكن أراها من قبل، كما لو أن حواسي إمتدت مباشرة إلى الغلاف الجوي لتشمل الهواء والجدران والأرضية وحتى الطاولة التي إستيقظت من فوقها.
شعرت بكل شيء كما لو أنه جزء مني.
مد أغرونا ذراعه وإبتسم بحرارة.
تخطيته متجنبة يده بينما أغلق عقلي وأفكاري بحزم على المانا.
تمامًا مثل هبتي أثقلت الأحرف الرونية غير المفككة بشكل كبير على ذهني لأن نيتها الحقيقية مخفية تحت الواجهة.
–+–
ترجمة : Ozy.