585 - الوعد (14)
585. الوعد (14)
تشانغ !
تقاطَعَ سيفا التوأم وهما يجزّان عنق الجثة الأخيرة. وما إن انهار الجسد نصف المتعفّن بلا حول ولا قوة، حتى خيّم صمتٌ كامل على الممرّ السفلي.
(( سيوف التوأم هي سيوف رئيس تيرباشيا والي هي تعتبر أقوى سلاح مقدس في العالم وهي سيوف لياندروس ))
تأمل لياندروس بعينين مثقلتين الممرَّ المائل، ذاك الذي انحنى بلا أي دعامة واضحة، وانحدر بانتظام مضطرب. تسلّل إليه فجأة شعورٌ قوي بالديجا فو.
( بأنه قد رأى هذا المنظر من قبل )
‘لا شكّ في الأمر. هذا البناء يشبه بدرجة كبيرة قبو الملجأ السري الذي شاده ريشيليو منذ زمن بعيد.’
صحيح أنّ الأفخاخ التي أعدّها حينها صانع الدمى كانت أشدَّ إحكامًا وتعقيدًا، غير أنّ الأساسيات واحدة: آلية الفخاخ، أنماط توزيعها، وأساليب التمويه المستخدمة تكاد تكون نسخة طبق الأصل.
‘لعلّ السبب أنّه لم يكن يملك وقتًا كافيًا للإعداد.’
فلم يستغرق الأمر طويلًا حتى تحوّلت أراضي داسيانو إلى هذا الجحيم. لا بدّ أنّ شخصًا ملمًّا بتلك التقنيات استعجل البناء، أو لعلّ أحد المتصلين بصانع الدمى حاول تقليد أساليبه على نحو ناقص.
وما إن بلغ تفكيره ذلك الحد، حتى ارتدّت إلى ذهنه كلماتٌ قديمة تركها الأمير موريس.
-….فالأشياء التي تبقى طويلًا في هذا العالم لا بدّ أن تخلّف آثارًا عميقةً وباقية.
ومنذ ذلك اليوم، ولشدّة ما كان يستعيدها كلما واتته الفرصة، ترسّخت كلمات الأمير في ذهنه بوضوح لا يزول، كأنّه سمعها بالأمس.
‘صحيح… لعلّ هذا أيضًا أحد الآثار التي خلّفها صانع الدمى.’
وبينما كان ينفض بعنف ما علق على سيوف التوأم من قذارة، تابع خطاه.
وحين بلغ نهاية الممرّ الطويل، لم يتردّد وفتح آخر الأبواب.
فاندفع منها فورًا هواءٌ خانق مشبع برائحة نتنة، مترافق مع هالة سحرية غريبة وواضحة.
-كروووك……
في الغرفة الضيّقة جلس رجلٌ على الأرض في هيئة بائسة. لم يكن إلا جثة حيّة، لكن الغريب أنّ عنقه وأطرافه كانت ملفوفة بسلاسل حديدية رهيبة.
لكن بخلاف ما سبق، لم يكن من يحرّك هذا الجسد روح إنسان، بل روح شيطان من الدرجة الدنيا. ومن تجاويف عينيه المتعفّنتين انبعث بريق أحمر مهدِّد.
“كـ… كـ… كيف……”
فتح فمه المرتجف بكلمات متقطّعة وهو يواجه لياندروس. أكان ذلك من شدّة الاضطراب أم بسبب جهاز نطق متفسّخ؟ لم يكن جليًّا.
“أيها… الابن الملعون… لتيرباشيا… كيف… وصلت… إلى هنا…؟”
وحين وقعت عيناه على السيوف المقدسة، ارتجف واقفًا محاولًا الفرار.
لكن السلاسل الملتفّة حول جسده شدّته بعنف، فأبقته حبيس مكانه. وبعد أن تلوّى قليلًا عاجزًا، لم يجد سوى أن يطلق أنينًا مفعمًا بالغضب.
“لقد… خدعتني تلك… المرأة ! المرأة المعونة ! كل هذا… لم يكن سوى لاستغلالي…!”
لم يحتج لياندروس إلى شرح ليدرك حاله؛ واضح أنّ المتعاقد البشري مع الشيطان خدعه بذلك الوهم ان جسده سيكون حيا بعد الموت . فارتبطت الروح الملعونة بجسد ميّت لا يملك منه فكاكًا. ولا شكّ أنّ ذاك الشيطان الغبي هلّل فرحًا إذ ظنّ أنّه امتلك جسدًا بشريًا بسهولة.
‘اذن… من حوّل منطقة داسيانو إلى هذا الجحيم حي ليس الشيطان ذاته.’
بل شخص متمرّس في عقود الشياطين، أكثر خطورة أحيانًا من الشياطين أنفسهم.
“من هو المتعاقد الذي قيّدك هنا؟”
لم يقتله لياندروس في الحال، بل اختار أن ينتزع منه بعض المعلومات.
كان هذا التصرف من المرونة بحيث لو رآه مَن يعرفونه عن قرب، لما صدّقوا عينيهم.
وكما هو متوقَّع، رفع الشيطان عينيه إلى لياندروس بملامح مذهولة.
“…يُقال إن قاتل الشياطين… يذبح الشيطان في الحال، بلا سبب ولا سؤال.”
“سأذبحك حقًا. غير أنّي قد أُصغي إلى وصيّتك الأخيرة قبل ذلك.”
“ككك…! لا تضحكني! وإن يكن، فلماذا… أبوح لك بذلك عن طيب خاطر؟!”
كان واضحًا أنّ الشيطان يحاول أن يساوم بما يملك من معلومات. لكن لياندروس لم يكن من النوع الذي ينخدع بمثل هذه الحيل.
“بما أنّني وصلت إلى هنا، فإن موتك محتوم ولن تتمّ عقدك أبدًا. فما رأيك أن تكشف لي هوية متعاقدك؟ عندها يسهل عليك أن تنتقم ممّن ظلمك وقيّدك هنا.”
“……!”
دارت حدقتا الشيطان المتعفّنتان في كل اتجاه. لكن مهما فكّر، لم يجد مهربًا من سيف قاتل الشياطين الشهير بقسوته.
وفي النهاية، استسلم وأرخى رأسه يائسًا.
“إذن… على الأقل… انتقم لي. متعاقدتي… هربت مع ماركيز داسيانو… في الغابة السوداء……”
بدأ صوته الكئيب يخفت تدريجيًا. فأصغى لياندروس بانتباه وهو يخطو نحوه.
لكن عند تلك اللحظة بالذات، وقع الانقلاب.
[لكن ! لا غفران لك أنت أيضًا!]
فجأة انبعثت من الجسد العفن دوّامة هائلة من طاقة مدمِّرة.
ارتفع كيان الشيطان مشوَّهًا بالغضب، وتحولت لعناته إلى صدى مدوٍّ كالرعد.
[أبغضك بقدر ما أبغض متعاقدتي، يا ابن تيرباشيا ! صحيح أنّ داسيانوس هو من نصب لي الفخ، لكن الست أنت من سيوجّه إليّ الضربة الأخيرة؟!]
داسيانوس؟
تجمّد لياندروس لحظةً عند سماع الاسم غير المتوقع، فإذا بطاقة مظلمة تتفجر من الشيطان وتنتشر في كل اتجاه.
ولو أنّه لوّح بسيوفه سريعًا، إلّا أنّ الموجات السوداء انتشرت كالدخان المتشعّب، ولم يستطع سيفاه أن يستأصلاها كلّها.
[هاهاها! ما أغباك ! أتدري ما كان عقدي أصلًا؟ تلك اللعينة زعمت أنّها ستستعين بقوتي لصنع الإكسير! لكن كل ذلك كان مجرّد كذبة براقة!]
دوووم!
اشتعلت الطاقة السوداء، واهتزّ النفق السفلي المتهالك بعنف حتى كاد ينهار.
[وفي النهاية، سيكتمل الاكسير ، لكنه سيكتمل بموتي! ها قد انتهى كل شيء وأتى المشهد البديع! ومن ثمّ، فلن يقوى أحد على وقف طاعون الموت الذي أطلقه داسيانوس!]
كان يصرخ مزهوًّا، بينما تحرّكت يد الجسد المتآكل مرتجفة.
[انظر بعينيك أيها الخائن! ما إن أطلق سراح ما حُبس في الخندق، حتى يجتاح طاعون الموت كل الأنحاء. وسيُباد البشر جميعًا في القارة خلال لحظة!]
في اللحظة التي حاول فيها التقاط شيء ما، انقضّ لياندروس بجسده دون تفكير.
شّشّق!
تألّقت ومضة فضية كالبرق—
طَقطَق!
تدحرج على الأرض معصم مبتور، وبجواره زرّ غريب أحمر اللون.
[كغغآآآآ!]
وبانهيار عقده قبل إتمامه، تلاشت روح الشيطان لعدم وجود سبب ونتيجة. ذوت الطاقة السوداء، وسقط الجسد بلا روح كخرقة ميّتة.
لقد جرى كل شيء في لمح البصر، حتى إنّ لياندروس لم ينتبه إلا متأخرًا أنّ الشيطان كان يوشك على ضغط ذلك الزر.
-” بالمناسبة، في العالم الخيالي ، تظهر أحيانًا أزرار جميلة على نحو عجيب. زِرٌّ أحمر يخطر ببال كل إنسان أن يضغطه ولو مرة. أفهمتَ، سير لياندروس؟ إيّاك أن تسمح لأحد بأن يضغط مثل هذا الزر! ”
آه… هكذا إذًا.
ظلّت الغرفة العميقة في باطن الأرض تهتز مهددة بالانهيار حتى بعد اختفاء الشيطان.
غير أنّ لياندروس أحسّ بهدوء غريب يغلّف صدره.
كان ذلك الطمأنينة العميقة التي تولد حين ينجز المرء أخيرًا مهمة جسيمة ظلّ يحملها على عاتقه طوال سنين.
* * *
حين خرج لياندروس من القبو المنهار وعاد إلى البوابة، كان قرص الشمس قد تدلّى بالفعل عند الأفق. وسرعان ما بدأت الماجيا التي غطّت جبل داشيانو تتلاشى، وفي السماء الصافية اشتعلت حُمرة الغروب.
صعد لياندروس إلى أعلى السور، وترك عينيه تتجولان في المشهد المحيط.
جثث لا حصر لها من الحيوانات حُوصرت في الخندق وهي تصارع بلا جدوى، والأرض من حول جبل داسيانو أخذت تسوَدّ تدريجيًا في دوائر متّسعة، كما لو كانت تبسط حلقات من الخراب.
ــ في النهاية، سَيكتمل الإكسير لكن بموتي! يا لها من نهاية تليق بي! ومن الآن، لن يكون في وسع أحد أن يوقف طاعون الموت الذي صنعه داسيانوس!
تمامًا كما توعّد الشيطان بكلماته الأخيرة، أخذت السحر السوداء تُلوِّث الأرض ببطء، باعثة الحياة في الجثث. ومهما حاول لياندروس وحده، فلن يجد وسيلة لوقف قوة تنتشر تلقائيًا عبر الماء والهواء.
حتى النباتات والحشرات والمخلوقات الصغيرة باتت وسائط تنقل عدوى هذا السحر .
ولم يعد هناك من سبيل لاحتواء كارثة داسيانو إلا بإقامة حاجز مقدس ضخم يغمر الإقليم بأسره.
وكان من البديهي أن يتطلّب الأمر حشدًا كبيرًا من الكهنة القادرين على تطهير السحر داخل ذلك الحاجز.
لكن لياندروس لم يَفقد رباطة جأشه. لقد كان يملك خططًا دقيقة، أعدّها وفحصها وراجعها مرارًا طوال سنوات.
“اتمنى ان لا تُفسد خططي.”
مدّ يده متلمسًا صدره الأيسر، حيث وضع زر صغير في ردائه.
كان يبدو كأي زر عادي اعتاد فرسان الهيئات الخمس استخدامه: صغير، بسيط، محفور بزخرفة متواضعة. لا شيء يميّزه عن غيره… إلا أن لياندروس كان يعرف تمامًا أي قوة عظيمة حُبست داخله.
أخذ نفسًا عميقًا، ثم ضغط الزر برفق، لكن بحسم. شعر بالإحساس يتفتت تحت أنامله.
لقد حان وقت تحرير القوة السحرية التي سرقها يومًا من تقرير القصر الإمبراطوري.
* * *
“التجربة رقم 75. دمج أربع وحدات نيكسوس ، انطلاق!”
( لمن لا يتذكر وحدات نيكسوس هي كرات متفجرة الخاصة باوين )
في ساحة التدريب التي أخذت تزداد عتمة مع غروب الشمس، صرخ سونغ-جين عاليًا ليعطي الإشارة.
فما كان إلا أن دوّى انفجار ضخم، وانفتحت حفرة كبيرة أخرى في أرض الساحة.
“فيوو!”
صفّر أوين بخفوت من خلف الساتر الذي احتمى به.
“كما توقعت، تفجير أربع وحدات دفعة واحدة قوته مختلفة فعلًا؟”
الأمر لم يقتصر على تراب الساحة فقط، بل إن بعض الحجارة المرصوفة حولها قد تشققت أيضًا، ما يبرهن على مدى هائل من القوة.
لكن وجه سونغ جين وهو يتأمل النتيجة لم يكن متأملا.
“مع ذلك، أظن أن الجمع بين عدة وحدات يقلل الكفاءة. في الحقيقة، سواء كانت ثلاث وحدات أو أربع، فالقوة الناتجة لا تختلف كثيرًا.”
“حقًا؟ إذن الأفضل الاكتفاء بوحدتين؟”
“نعم. يبدو ذلك.”
أومأ سونغ جين برأسه والتقط وحدة نيكسوس أخرى. أما الوحدات التي صنعها أوين طوال اليوم بجد واجتهاد، فقد أوشكت على النفاد بعد كثرة التجارب.
حتى صار مجرد تحريك سونغ جين ليده كافيًا لبث الرعب في نفوس الخدم القريبين فيرتجفون خوفًا.
وأحيانًا، كان رئيس الخدم ــ بحذائه ذو الكعب العالي ووجهه المليء بالغضب ــ يطل على الساحة لتتفقد ما يحدث.
لكن سونغ جين لم يشعر بأدنى وخز ضمير لتدميره منزل نبيل أجنبي. بل كان يتمنى أن يهرع ذالك الخادم إلى سيده وينقل له بأكبر قدر من التفاصيل ما الذي يفعله الأمير الثالث للإمبراطورية الآن.
“لنكتفِ بهذه التجربة اليوم. سنعتمد على إنتاج كميات كبيرة من قنابل النيكسوس الثنائية. على الأرجح، بهذه الطريقة سيتمكن الآخرون من استخدامها بسهولة. سواء كانت على التوالي أو على التوازي فلن يكون هناك فرق كبير.”
“حقًا؟ إذن سأصنع وحدات إضافية أولًا……”
كان أوين يهمّ بهز رأسه موافقًا، لكنه فجأة صمت، وراح يحدق في ملابس سونغ جين دون أن يرمش.
“هاه؟ ما الأمر؟”
التفت سونغ جين مستغربًا، فإذا بأووين يشير بارتباك إلى سترته الرسمية.
“انتظر، ايها المبتدئ… زرّ سترتك يلمع!”
“…هاه؟”
ما هذه الهراء فجأة؟
قطب سونغ جين حاجبيه، لكنه ما لبث أن اتسعت عيناه، إذ كان أحد أزرار صدره يلمع فعلًا بلون أحمر قانٍ وهو يومض.
بل إن الزر أخذ يتحرك وحده ويصدر طقطقة، كأنه بوصلة حية تنجذب بقوة خفية.
‘ما الذي يحدث؟!’
وبينما سونغ جين في ذهول ويحاول خلع سترته بسرعة ، ظهر السير روبرت من بعيد يركض مسرعًا نحو ساحة التدريب.
“يا سموّك!”
اقترب منهم على عجل، وهو يرفع نظارته التي انزلقت من فوق أنفه، لاهثًا بشدة.
“إنها… إنها حالة استدعاء طارئة!”
….
بالنسبة للزر هو زر أخذه من القصر الامبراطوري وليس زر الأحمر
ترجمة : غيود
تدقيق : لينا