191 - (جزيرة دراث) (6)
تقطّر الندى من الكهف العتيق، متناثرًا في برك صغيرة عند قدمي.
تقدّمت أكثر داخل الكهف بينما كانت نيلا تتبعني، وسهمٌ مشدودٌ على قوسها.
“هل أنتِ واثقة أنكِ قادرة على القتال بهذا السلاح؟” سألتها، وأنا ألتفت للخلف لألمح ردة فعلها.
الغريب أنها لم تُبدِ أي دهشة كما كنت أتوقع منها.
قالت بتفاخر، وذقنها مرفوع بفخر: “أنا أجيد استعمال القوس كما أجيد السيف.”
أومأتُ بهدوء، مُصدّقًا كلماتها.
فقد كانت موهوبة في استخدام عدة أسلحة منذ صغرها، لذا لم أكن معارضًا حقًا لفكرة إجادتها للقوس.
“همم؟”
خفضت بصري، شاعراً بشيء يسد طريقي، فأدنيت الشعلة.
كان عند قدمي جثة متحللة، فكّها ملتوي بألم، جلدها الأرجواني جافٌّ ومتصلّب كزبيب قديم.
تجاوزتُ الجثة، أصابعي ملتفّة على مقبض الكاتانا خاصتي.
“كم يبلغ عمر هذا المكان؟” تذمّرت نيلا وهي تتبعني، عيناها إلى الأمام.
“قديم بما يكفي.” أجبتها وأنا أسير على الممر الضيق.
مما رأيته سابقًا، كان هذا المكان مجرد جزيرة عادية مأهولة بالناس، قبل أن يغزوها الـدراث من مكانٍ ما.
لا أعلم كيف، لكنهم أخضعوا هذه الأرض دون أن يتركوا للبشر فرصة للمقاومة.
“هيه.” همست نيلا بخفوت، “…هل تعتقد أنهم يمكن أن يكونوا هنا؟”
“…من؟” سألتها، حائرًا، وأنا أحدّق بها للخلف.
قالت بوجه شاحب يكسوه الاضطراب: “أولئك الكائنات الشبيهة بالبشر… الذين يشتهون أكل البشر.”
“لا، لا يوجد منهم أي حي على هذه القارة.” تمتمت وأنا أهز رأسي. “لا يمكن أن يكونوا هنا، وحتى لو كانوا، فالأكاديمية بالتأكيد قضت عليهم منذ زمن.”
قالت وهي تحدّق في ظهري بعينيها البنيتين: “أنتَ تتحدث وكأنهم ما زالوا موجودين.”
امتنعتُ عن الرد على تعليقها—لا أحب التفكير في ذلك.
وفجأة انفتح النفق أمامنا، كأن الجدران قد انهارت ببساطة، تاركة إيانا في عتمة تامة، باستثناء الضوء الخافت المنبعث من الشعلة، والظلال الكثيفة تبتلع النار بجشع.
بدلًا من أن أنظر إلى الأمام، وجهتُ الشعلة فوقنا.
ولم يُعجبني ما وجدت.
من قلب الظلال… خرجوا.
يمشون على أربع، وأيديهم الممدودة تجعل أجسادهم منحنية إلى الأعلى.
وببطء، استداروا نحونا، وأجسادهم تتمايل، وأفواههم الشبيهة بالبتلات تنغلق معًا.
“هل أنتِ جاهزة؟” سألتها بينما أرسم علامة أرجوانية على الشعلة.
انفلتت من قبضتي، فبدأت الشعلة تحوم في الهواء، دائرة حولي كما تدور الكواكب حول الشمس.
“توقف عن طرح الأسئلة الغبية.” تمتمت بهدوء، مشدّدة قبضتها.
اكتفيتُ بهز كتفي، ثم التفت ولمستُ خصرها، تاركًا علامة أرجوانية بينما فعلت الشيء نفسه مع الكاتانا خاصتي.
ارتبكت فجأة، وقبل أن تصرخ في وجهي، تحرّك الـدراث.
عوى الـدراث، فاتحًا فمه الواسع نحونا.
وبلا إنذار، اندفعوا جميعًا دفعة واحدة.
كانت نيلا أول من هاجم، إذ غلّفت سهمها بالمانا قبل أن تطلقه.
صفّر في الهواء قبل أن ينغرس عميقًا في رأس أول دراث.
أمسكتُ الكاتانا خاصتي كما لو كان رمحًا، ولففتُ خصري، ثم قذفته نحو أقرب دراث.
صرخ عاليًا، مما جعله يترنّح إلى الأمام.
أما البقية، خمسة تقريبًا من الـدراث، فقد صاروا فوقنا الآن.
قفز اثنان منهم عليّ، عاليًا في الهواء.
كسوتُ يدي بالمانا، ومددتها إلى الأمام، فالتفّت أصابعي حول عنق أحدهم، بينما كنتُ أستدعي الكاتانا باليد الأخرى.
كان ينظر إليّ بحيرة، وجهه المذعور مسطّح ومشوّه، وفمه الضخم مفتوح على آخره.
فمه العريض ينطبق بجنون على بُعد بوصات من وجهي، فيما مخالبه المسنّنة تغرس في ذراعي في محاولة يائسة لجرّ نفسه أقرب.
ومن دون تفكير، سحقتُ حنجرته، فمات على الفور.
سويش!!
عادت الكاتانا إلى يدي، مغطاة الآن بالدماء وبقايا الدماغ.
نظرتُ إلى الـدراث الآخر—رأسه انفجر، وجسده ملقى ميتًا على الأرض.
عندما استدرتُ، لاحظتُ أن نيلا كانت قد أنهت بالفعل ما تبقّى من الـدراث.
وبينما كانت تُعيد السهم إلى قوسها، التفتت نحوي وقالت: “لنذهب.”
سارت بجانبي بينما بدأتُ أتحرّك من جديد.
“ما أمر هذا المكان؟” تمتمتُ بضجر، محدّقًا في الأرض غير المستوية، حيث تنتصب الهوابط كأنها سكاكين.
“ماذا به؟” سألت، وهي تنظر إليّ عبر كتفها.
فتحتُ شفتي مشيرًا إلى ساقيها، لكن كلماتي انقطعت فورًا.
كانت تسير عمليًا فوق تلك السكاكين بلا أي مشكلة—طبقة غير مرئية تحميها.
تأففتُ: “تتباهين.”
اكتفت بهز كتفيها بابتسامة متكبّرة على وجهها.
“على الأقل حاولي أن تحافظي على تنكرك.” قلت، ماحيًا تلك الابتسامة عن محيّاها.
“لا أعرف عمّا تتحدث.” تمتمت بهدوء، مما جعلني احاول كتم ضحكي.
اقتربتُ من الجدار، لمستُ سطحه الرخو المبتلّ، وأخذت نفسًا عميقًا.
“رنّ أندانور الثالث.” همستُ بخفوت، وألم خفيف يغمر راحتي.
وعندما رفعتُ يدي، رأيتُ على الجدار نقشًا لشمس متوهّجة قبل أن تعود إلى طبيعتها.
استدرتُ نحو الجانب الآخر من الجدار، ولمسته مكررًا العملية نفسها.
لكن هذه المرة، انطبع قمر بدل الشمس.
“ما هذا؟” التفتُّ جانبيًا، فإذا بنيلا تحدّق في العلامة بعينيها نصف مغمضتين.
“قدرتي.” أجبتُ بخفوت وأنا أستدير.
“وما الذي تفعله؟” سألت بفضول.
“ولماذا عليّ أن أخبركِ؟” رددتُ وأنا أحدّق في وجهها.
أطبقت شفتيها بغيظ ثم دفعت كتفي بإصبعها: “ولِمَ تُبقيها سرًا؟”
“توقفي عن التصرّف بدلال؛ هذا يثير قشعريرتي.” قلت باشمئزاز وأبعدتُ يدها.
حدجتني بنظرة حادّة متجاهلة كلماتي تمامًا.
هبّت ريح عابرة من جانبي، فأحسستُ بقشعريرة تسري في جسدي.
“هيه، نيلا.” قلت بجدّية، فتوقفت عن وخزي، “استعدي.”
أمسكت قوسها بسرعة بينما شددتُ قبضتي على الكاتانا خاصتي.
دويّ طرقات إيقاعية منخفضة دوّى في المكان، حتى بدا وكأن الأرض تهتز.
و…
في اللحظة التالية، مئات من الـدراث كانوا يقتربون منّا مثل وحوش جائعة.
…
…
…
رفعت كريستينا رأسها إلى السماء.
عيناها نصف مغمضتين وهي تحدّق في الغيوم السوداء الملبّدة و المتشائمة التي غطّت الأفق.
تناثرَت قطرات المطر على الحاجز الذي يحمي المبنى.
ارتسمت ملامح التفكير على وجهها بينما كانت تُسند ظهرها إلى الجدار.
“ما الذي تفعلينه؟” التفتت للخلف على وقع صوت مألوف.
“أفريل.” تمتمت كريستينا بابتسامة خفيفة وهي تقترب، جالسةً على الدرج بجانبها.
“هل يشغلك أمر ما؟” سألت أفريل وهي تشبك أصابعها معًا.
“ليس كثيرًا.” ردّت كريستينا، “فقط أفكر كيف ستكون الأمور عندما أبتعد عن آز.”
“همم؟ ماذا تقصدين؟” سألتها باستغراب.
“أتعلمين… من أجل دراساتي المتقدمة، عليّ أن أعيش في أكاشا.” أجابت، فأومأت أفريل برأسها.
“أأنتِ واثقة من ذلك؟” سألتها بشيء من الشك.
“لا أستطيع القول إنني سأتعلّم هنا بالطريقة التي أريدها.” ردّت مبتسمة بخفة، “وفوق ذلك، لا يهمني ما يظنه الآخرون.”
“لكن سيبقى الأمر صعبًا.” تمتمت أفريل وهي تحدّق في يديها. “فهي ليست مكانًا جيدًا للعيش.”
“ومع ذلك—.”
“لا تقلقي.” لوّحت كريستينا بيدها باستخفاف، “… لديّ صديقات مثلك، ناهيك عن والدة أوليفر وعمّته ينيفر أيضًا… سيهتمون بي.”
“كريستينا—.”
“كفى.” تمتمت كريستينا بضيق. “هل فعلتِ ما طلبتُ منك؟”
تغيّر تعبير أفريل، وعيناها البنفسجيتان تحدّقان بها: “…كنتِ جادّة؟”
“كنتُ.” ردّت وهي ترمش بخفة. “…انتظري، لم تفعلي ذلك؟”
“…لا.” ردّت أفريل وهي تصرف بصرها بعيدًا. “…من الصعب أن أبقى معه… دائمًا يحاول الهرب مني.”
“تشه، أي نوع من الأخوات أنتِ؟” علّقت كريستينا بسخرية.
“وأي نوع من الخطيبات أنتِ؟” ردّت أفريل بحدّة، تحدّق بها. “…من تطلب من أخت خطيبها ملابسه؟”
“ملابس مستعملة.” صححت كريستينا بوجه جامد.
تأففت أفريل وهي تفرك صدغها بإحباط، “…لا أريد سماع ذلك.”
فتحت كريستينا شفتيها لترد، لكن قبل أن تتكلم، دخل شخص عبر الحاجز.
نهضتا الاثنتان معًا، تحدّقان في الدخيل.
“الأستاذة لورين؟” تمتمت كريستينا بدهشة وهي تراها تتقدّم نحوهما. “ما الذي جرى لكِ؟”
نظرت إليهما لورين بعينين حمراوين، وجسدها بأكمله مبتلّ بالمطر، شعرها ملتصق بوجهها.
“أستاذة؟” تمتمت أفريل بقلق وهي تنظر إليها.
من دون أن تنطق بشيء، تابعت لورين طريقها إلى الداخل.
وبينما ما زالتا مشوشتين، تبعتاها حيث كان دافني وجوليان موجودَين بالفعل.
التفتا نحوها، والارتباك يغمر ملامحهما.
“لورين؟” تمتمت دافني، وهي تُخرج منشفة وتتقدّم نحوها.
“إنها حالة طارئة.” قالت لورين أخيرًا، بصوت بارد. “…أحدهم غزا الجزيرة.”
زاد ارتباكهم أكثر أمام كلماتها اللامعقولة.
اقترب جوليان من الكاميرا، يفحص واحدًا تلو الآخر باحثًا عن شيء غريب.
لكن…
لم يجد أي شيء مريب.
“أين هم؟” سأل وهو يلتفت نحوها مرتبكًا.
تجاهلت لورين كلماته وحدّقت بدافني.
من غير أن تشرح شيئًا، تقدّمت نحوها.
تحرّكت شفتاها قائلة: “علينا استدعاء السيّدة إيزميراي.”